كلما ارتفع صخبُ المختلفين، وتنازع القوم في نصرة كلّ فردٍ منهم لرأيه، وتفشى في حوارهم داء العصر المقيت؛ أقصد ذاك التعصب الصفيق؛ تذكرت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى الأشعري حينما أرسلهما إلى اليمن داعيين، حيث قال لهما -كما في الحديث المتفق عليه-: "يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا".
لمستهجن أن يسأل: أين يقع #التطاوع اليوم في دنيا الناس؟ وما هي قيمته بينهم؟ وهل تخطر هذه الكلمة في بالهم، وتطرق مسامعهم أو قلوبهم، كلما وقع خلافٌ بينهم في مسائل لا تعدو أن تكون موطن اجتهاد وأخذ ورد؟
بيد أن واقعاً أليما يدفع في صدر هذا السائل، ليقول له: حنانيك! فإن أسئلتك مبكرة يا هذا؛ إذ إن التطاوع يكون في الغالب بين العاملَين جنباً إلى جنب، حتى إذا اختلفا في خطوة بوسط الطريق، تنازل أحدهما للآخر لكي لا تتعطل القافلة في المسير، ويظفرا جميعاً فيما هو أهم من اعتداد كل واحد منهما برأيه.
التطاوع يكون في الغالب بين العاملَين جنباً إلى جنب، حتى إذا اختلفا في خطوة بوسط الطريق، تنازل أحدهما للآخر لكي لا تتعطل القافلة في المسير، ويظفرا جميعاً فيما هو أهم من اعتداد كل واحد منهما برأيه
أما اليوم؛ فإن "جماعات" المسلمين ارتضت كل واحدة منها النأي عن الأخرى، والعمل وحيدة في ميدان تتكالب فيه قوى العلمنة والفساد على كل ما هو إسلامي، فكيف يكون ثمة تطاوع بينها، وكل واحدة منها تسير في طريق مغايرة للأخرى؟!
وللأسف؛ فإنْ كان ثمة تقارب يتلوه تطاوع؛ فإن الفضل في ذلك على الأغلب إنما يعود إلى أعداء المشروع الإسلامي الذين كلما تطاوعوا واشتدت حربهم على الإسلاميين؛ تنازل بعضهم لبعض، فيما بقي آخرون منهم مصرّين على نبذ التطاوع، واحتضان الفرقة والاختلاف.
إن التطاوع واجبٌ شرعي مهمّ لنجاح أي مشروع، فعدم التطاوع يقود إلى الاختلاف لا محالة ، وكان يكفي أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما: "تطاوعا"، ولكنه أراد التأكيد بالنهي عن الضد فقال: "ولا تختلفا"، وذلك قريبٌ من مثل قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}.يقول الإمام ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث: "وتطاوعا، أي: توافقا في الحكم ولا تختلفا؛ لأن ذلك يؤدي إلى اختلاف أتباعكما، فيفضى إلى العداوة، ثم المحاربة"..
ألهذا الحد -أيها الإمام الجليل- يؤدي عدم التطاوع؟! أإلى المحاربة؟! نعم، وإن ما يمنع كثيراً من المحاربات أن تقع بين المسلمين إنما هو عدم توفر أجواء الفوضى في بلدانهم، وما يرافقها من انتشار للسلاح وشراء الذمم!!
طبيعيٌّ جداً أن يتأخر النصر عن المسلمين، وأن يُحرَموا التمكين السنين تلوَ السنين، لأنهم غيّبوا هذه الفريضة عن واقعهم، حتى لا يكاد يُسمع لكلمة "التطاوع" ذكْرٌ بينهم، إلا أن يمر عليها قارئٌ لصحيح البخاري أو مسلم مرور الكرام، أو اللئام.
طبيعيٌّ جداً أن يتأخر النصر عن المسلمين، وأن يُحرَموا التمكين السنين تلوَ السنين، لأنهم غيّبوا هذه الفريضة عن واقعهم، حتى لا يكاد يُسمع لكلمة "التطاوع" ذكْرٌ بينهم
يا سادة! التطاوع فضيلة وأي فضيلة، إنها تنازل عن حظوظ النفس التي تنتشي بالانتصار لرأيها، ويصيبها الفزع والألم إنْ هي تنازلت عنه لرأي مخالف، ولا أقصد بذلك التنازل النظري فحسب، بل يجب أن تنقاد عملياً خلف مخالفها، تسير هي من خلفه، ويكون هو أمامها يوجّهها حيث يشاء، وتبلغ نفسُ هذا المتطاوع من الرقيّ وعظَم القدْر، حينما تحامي عن الرأي المخالف، وكأنها هي القائلة به؛ تحقيقاً لمصلحة أكبر.
و التطاوع لا يعني إغلاق باب الحوار، ولا تسلط طرف على الآخر مستغلاً تواضعه وتطاوعه، بل هو يفتح باب الحوار العلمي الرصين على مصراعيه ، لأنه يوسّع المدارك، ويقرّب وجهات النظر، ويدفع أحد الطرفين إلى التطاوع حينما يرى أن الصواب أقرب إلى رأي مخالفه.
أما إذا أُغلق على كليهما، ورأى كل واحد منهما أن رأيه هو الصواب؛ فإنهما جميعاً مأموران بالتطاوع حتى يقع من أحدهما، فأيهما سارع إلى التنازل عن رأيه، والانقياد خلف صاحبه؛ فهو الظافر بالفضيلة، والسابق إلى الأجر.
يا ترى! هل لنا أن نحلمَ بأن يصل المسلمون إلى هذه المرحلة.. أن يتسابق كلُّ واحد منهم إلى التطاوع بنفس رضية؟!