فيما يلي أحد عشر مفتاحًا موجزًا وعمليًا، يعين على ضبط شرارة الحدّة في الاختلافات والحوارات، حتى لا تنشب نار تحرق القلوب لسوء مداخلها:
1- الإلحاح في أدعية استجلاب حسن الخلق، ومنها: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، ربّ واصرف عني شرّها، لا يصرف عني شرها إلا أنت) [رواه مسلم]. ذلك أن حسن الخلق وبالذات الحلم وكظم الغيظ هما من المفاتح الرئيسة في السيطرة على المشكلات وعدم تحويلها لأزمات.
2- الاجتهاد في تطبيق وصيّة المصطفى عليه الصلاة والسلام عند الغضب: (إذا غضِبَ أحدُكُم وَكانَ قائمًا فليَقعُدْ، فإن لم يذهَبْ عنهُ فليضطجِعْ) [رواه أبو داود وابن حبان وغيرهما]. لا بدّ من الاجتهاد في ملك النفس تماماً، بإظهار الهدوء، وخفض نبرة الصوت، والحرص على تقليل حركات الجسد واليدين؛ لأن السماح لأدنى قدر من الغضب، أو "النرفزة" بالخروج في رفع نبرة الصوت، أو كثرة الانفعال الحركي سيفجر الموقف، وفي الغالب، يستحيل السيطرة عليه أو استعادة التماسك مرة أخرى.
كثرة الانفعال الحركي سيفجر الموقف، وفي الغالب يستحيل السيطرة عليه، أو استعادة التماسك مرة أخرى
3- وكذلك استحضار الهدوء والسكون عند الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وعند ذكر الله في عبارات: "لا إله إلا الله"، و"لا حول ولا قوة إلا بالله"، فكم ممن يستعيذ كلاماً ونبرته وحركاته تفور غلياناً!
4- الحرص على الإنصات للطرف الآخر، وتركه يفرّغ ما بداخله، ذلك أعون على استماعه حينما يحين دورك، وفي ذلك يقول الشاعر:
دع الغضبان يخرج مالديه *** وأحسنت الصنيع إذا سكتَّا
فإن جادلته والنار فيه ** فأنت تصب في النار زيتاً
5- محاولة تحديد نقاط الاختلاف أولاً قبل البدء في تفنيدها، فكم مما نحسبه خلافاً هو في حقيقته اختلاف وجيه، ومشروع لا يفسد للود قضية ، ولا يضير مسايرة الآخر فيه، أو إظهار قبوله؛ لتجنب الخوض في جدل طالما لا يلزم الطرف الآخر بفعلٍ لا يرضاه، خاصةً فيما يكون مع الوالدين، أو الزوج، أو من يلزم برُّهم، والبرّ من درجاته الكلمة الطيبة.
6- الانتباه لرسائل القلب بين طيّات الكلام، فاستغراقنا في التفنيد وتبادل الاتهامات، يصمُّ الآذان عن سماع المغزى الحقيقي وراء الكلام المرسل، من ذلك، معاتبة الوالدين للابن على التأخير، هي في الحقيقة رسالة قلق واهتمام، لا تسلّط وتحكم، ومعاتبة الزوجة لزوجها قد لا تعني بالضرورة أنه حقاً "لا يهتم بها"، وإنما "اهتم أكثر"، أو بالصورة التي تحتاجها الزوجة، ولا يُشبِعها توفير المال والطلبات المنزلية، وحتى إن فرضنا أن الكلام حقيقي لا مجاز، فالردّ الحسن ومخاطبة القلوب كفيل بتحويل بوادر العاصفة إلى نسائم ودّ وتوثيق محبة!
استغراقنا في التفنيد وتبادل الاتهامات يصمُّ الآذان عن سماع المغزى الحقيقي وراء الكلام المرسل
7- التفرقة بين وجهي الحساسية:
أما الوجه الحسن: فالحساسية صفة رفيقة في التعاملات الإنسانية الراقية، حينما تكون حساسية "تجاه" الآخرين، وليس "منهم" ، فتجاههم يعني أن يأخذهم بالترفق ولين الكلام والمداراة –لا بالمداهنة-، وكلما جَهِلوا عليه ازداد حِلماً، فيسامح في حقوقه بما لا يضرّ به، أو يغريهم بإيذائه أكثر، ولا ندقِّق على كل كبيرة أو صغيرة؛ لأننا لا ينبغي أن نتعامل بمقاييس الأخذ والرد، فإن أعطيتني أعطيتك، وإن منعتني حرمتك، فالمؤمن مستغنٍ بالله عن الناس وأفضالهم ومدحهم وذمهم، وخير منه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لا تَكونوا إمَّعَةً، تقولونَ: إن أحسنَ النَّاسُ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلَمنا، ولَكن وطِّنوا أنفسَكم إن أحسنَ النَّاسُ أن تُحسِنوا، وإن أساءوا فلا تظلِموا" [رواه الترمذي].
وأما الوجه السلبي للحساسية، والذي غالباً يكون المنبع لسوء التأويل وسوء الفهم، وهو الهروب أو الانكماش من فتح أبواب التحاور الصريح لئلا تجرح، أو التألم في صمت إذا جرحت، والتصرُّف الناضج السليم هو في الأولى المواجهة المباشرة، وفي الثانية التعبير صراحة، وفي كلتا الحالتين بما يجمل من الملتزمة من تلطف ورقة وتهذيب في اختيار الألفاظ، ونبرة الصوت وتعابير الوجه، الحساسية الهروبية أو الانكماشية قد تفهم بسلبية حتى من أقرب الناس لك؛ لأنك لا تفصح، ولأن الناس لن يخمنوا، وبقدر ما يزعجنا هذا في الآخر بقدر ما يكون حين يصدر منا.
فإما أن تفصح فتبين، أو تمرر الموقف تماماً، إما تجاهل بمعروف، وبعفو لا عتاب بعده، وأجرك كله على الله، فيناديك الله على رؤوس الخلائق حين لا يقوم إلا من كان أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا، أو تواصل بإحسان تصرٍّح فيه مصارحة مهذبة، معبراً فيها عن مكنونك، والعتاب هدية الأحباب، حين لا يكون هو مادة اللقاء كل مرة!
8- حين يوجّه أحد لك انتقاداً، أو يسيء تأويل مقصدك، حاول الاستماع لا لتقاضي الشخص الآخر، بل لتفهمه، فليس بالضرورة كل ما يقال هو "اتهام" يستوجب دفعه، لعلها رسائل أخرى أود أن تسمعها، وخير ما يهدى إليّ عيوبي، وما يوجّهه الآخرون من ملاحظات، مهما كنت "ترى" أنها ليست في محلها، فلننتبه أنهم يقولون ما "يرون" هم، ولم نسمع أبداً عن أحد كان مرآة نفسه، ومن ثم فلنجتهد أن نوسع صدورنا حقاً في التقبُّل بغير "دفاعية"، وإنما "بنقاشية".
فبدلاً من "لكن"، و"لا"، و"لست"، لنسأل أسئلة تبين للآخرين أننا نقدر مشاعرهم -كما كنّا لنود أن يقدّروا مشاعرنا-، مثل "ما الذي أوحى لك بهذا؟"، "هل بدر مني تصرف؟"، "لم يعجبك هذا الأسلوب فكيف كان يفترض أن يكون؟" ... إلخ.
ولنا في مقولة سيدنا عمر رضي الله عنه عبرة: "رحم الله امرَءاً أهدى إليّ عيوبي"، وفي زماننا نقول: "إن خير ما يُهدى إليّ عيوبي"، لكن شتّان بين سماع الآخر على غضاضة في النفس وتجهيز للرد، والاستماع للفهم والإصلاح.
شتّان بين سماع الآخر على غضاضة في النفس وتجهيز للرد، و"الاستماع" للفهم والإصلاح
9- لنذكّر أنفسنا أننا دائماً متنبهون لما يفعله الآخرون بحقنا، لكننا بدورنا لا نرى تلك الندوب الصغيرة التي لعلنا نتركها فيهم كذلك، ليس الشأن في كونها بقصد أو من دون قصد، بل في سرعة التقاطنا لها فيهم، وبطئنا عن استشعارها فينا.
10- ولنستحضر قوله تعالى: {إن يريدا إصلاحاً} [سورة النساء، آية:35]، و{إن يعلم الله في قلوبكم خيراً} [سورة الأنفال، آية:70]، فبمقدار صدق المرء في الإصلاح والحل يكون عون الله تعالى وتأليفه للقلوب .
نسأل الله تعالى قلوباً تقيةً نقيةً، وخلقاً حسناً، وإعانةً على الإصلاح، آمين.