تجد حركة #حماس نفسها الآن، وبعد ثلاثين عاما على إنشائها على مفترق طرق، وأمام عدد من ”الأسئلة الحرجة“، التي لم يعد بعضها يحتمل التأجيل، والتي كلما تأخرت إجابتها كلما أثر ذلك سلبا على قدرتها على بناء مساراتها المستقبلية. أما أبرز هذه الأسئلة أو المسائل فهي:
أولا: ماذا لو فشلت المصالحة الفلسطينية؟
بالرغم من أن حماس عدَّت المضي في المصالحة ”قرارا استراتيجيا“، وبالرغم من أنها عمليا سكتت عن عدم تفعيل المجلس التشريعي الذي تقوده، وعن عدم شراكتها في مؤسسات السلطة وأجهزتها في الضفة العربية، وسكتت عن تولي حكومة محسوبة على فتح إدارة السلطة، كما سلمت قطاع غزة ومعابره لهذه الحكومة، ورضيت أن يُدار العمل المقاوم ضمن إستراتيجية مشتركة مع فتح وباقي الفصائل.. بالرغم من ذلك كله فإن قيادة فتح تقوم بـ”إدارة ملف المصالحة“، وهي غير معنية بإنفاذها على الأرض. وتقوم إستراتيجية قيادة فتح حتى الآن على تطويع وتهميش حماس في النظام السياسي الفلسطيني، وليس على الشراكة الكاملة التي تُعبِّر عن الأوزان الحقيقية للقوى الفلسطينية الفاعلة.
قيادة فتح التي تعمل تحت سقف أوسلو واستحقاقات التسوية السلمية، لا تستطيع حتى لو أرادت، إنفاذ #المصالحة على قاعدة الشراكة الكاملة، لأن ثلاثة من ملفات المصالحة الخمسة يتحكم بها الطرف الإسرائيلي (الحكومة، والانتخابات التشريعية، وأجهزة السلطة في الضفة الغربية)، وهو لن يسمح لحماس بالعمل في أطر السلطة إلا تحت سقف أوسلو الذي ترفضه الحركة.
ووثيقة المصالحة نفسها تم بناؤها على أسس إجرائية، تفتقر للقواعد اللازمة لنجاحها؛ فلا اتفاق حتى على الثوابت (مثلا: التنازل عن معظم فلسطين التاريخية المحتلة سنة 1948)، ولا على البرنامج الوطني الفلسطيني، ولا على أولويات المرحلة، ولا على طرق إدارة الصراع ومسارات التحرير.
وباختصار، فلا أفق حقيقيا لنجاح المصالحة، وعلى حماس أن تبحث عن إجابة لسؤال: ماذا بعد المصالحة؟
ثانيا: ماذا بعد السلطة الفلسطينية؟
لا أفق للسلطة الفلسطينية، فمشروع التسوية السلمية في طريقه إلى الانهيار، وحلّ الدولتين سقط من الناحية العملية، ويكاد يستحيل أن تتطور السلطة إلى دولة فلسطينية كاملة السيادة على الضفة الغربية وقطاع غزة.. وستبقى السلطة الفلسطينية كيانا وظيفيا يخدم الاحتلال أكثر مما يخدم تطلعات الشعب الفلسطيني. ومن المستبعد أن تسمح ”إسرائيل“ وأميركا (وحتى فتح والأنظمة العربية) بإجراء انتخابات تشريعية يغلب على الظن أن تفوز فيها حماس. ومن المستبعد جدا أن تتمكن حماس من الجمع بين السلطة والمقاومة حتى لو فازت في الانتخابات، خصوصا إدارة الحكومة في الضفة الغربية. إن حركة فتح التي تقود عمليا السلطة الفلسطينية، وتوفر الغطاء اللازم لاستمرارها، تموضعت تحت سقف اتفاقيات أوسلو، وهي ستبقى أسيرة الاستحقاقات التي نشأت السلطة على أساسها، إلا إذا قررت ”قلب الطاولة“.. ولا يبدو ذلك قريبا.
لا أفق للسلطة الفلسطينية، فمشروع التسوية السلمية في طريقه إلى الانهيار، وحلّ الدولتين سقط من الناحية العملية، ويكاد يستحيل أن تتطور السلطة إلى دولة فلسطينية كاملة السيادة على الضفة الغربية وقطاع غزة.
أما حماس فهي لا تستطيع أن تتموضع تحت سقف أوسلو، وعليها ألا تتوقع أن تتمكن من فرض ”شروط اللعبة“ على الطرف الإسرائيلي، بإعادة تعريف السلطة كسلطة مقاومة في المناطق التي تخضع للاحتلال في الضفة الغربية، أو أن تفك الحصار عن غزة من جانب الطرف الإسرائيلي في قطاع غزة.
وبالتأكيد، لم تعد إدارة قطاع غزة مقابل الأثمان الباهظة التي تدفعها حماس وقوى المقاومة في الضفة الغربية وحتى في الخارج، أمرا مغريا لإدارة المشروع الوطني في بيئة من الحصار والانقسام.. وأيما محاولة للتكيّف الحمساوي المقاوم، تحت سقف أوسلو، ستؤدي إلى تآكلها كحركة مقاومة، إن لم يفقدها هويتها ومبرر وجودها.
وباختصار، فإن قرارات المشاركة والدخول في المنظومة التي اتخذت في سنتي 2005 - 2006 لم يعد بالإمكان استنساخها، وعلى حماس أن تبحث عن آفاق جديدة.
ثالثا: مستقبل التعامل مع قيادة منظمة التحرير
باختصار، ”ومن آخرها“ فإن حماس ضيف ثقيل وغير مرغوب به في منظمة التحرير! ليس فقط لأنها ستتمدد في الأطر التشريعية والتنفيذية والقيادية للمنظمة على حساب حركة فتح، التي تعودت على الهيمنة والسيطرة على المنظمة طوال خمسين عاما. ولكن لأن دخول حماس (بتوجهها الإسلامي والمقاوم) بالنسبة لقطاعات واسعة في فتح والمنظمة، سيتسبب بمشاكل وتراجعات كبيرة للمنظمة في الإطار العربي والدولي، وقد تسحب دول كثيرة (وخاصة غربية) اعترافها بالمنظمة كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وقد تغلق سفارات المنظمة لديها، مما يؤدي لاضمحلال الوجود الدبلوماسي الدولي للمنظمة؛ ما دامت هذه البيئات الغربية والدولية معادية أو مخاصمة للتيارات الإسلامية ولتيارات المقاومة.
من ناحية ثانية، لن تقبل حماس أن تدخل المنظمة إلا ضمن شراكة حقيقية فعالة، وضمن برنامج وطني فلسطيني يرفض اتفاقيات أوسلو ومرجعيتها. كما أن حماس لن تقبل أن تكون في أطر المنظمة على هامش فتح، أو كـ ”شاهد زور“ و”محلل“ لمسار التسوية، لأن ذلك سيفقد حماس مبرر دخولها للمنظمة.
إن أي دخول جاد لحماس في منظمة التحرير، مرهون أساسا بقرار مركزي حاسم لحركة فتح بإلغاء اتفاقيات أوسلو والعودة للميثاق الوطني، والاستعداد الحقيقي لتحمل أعباء ومتطلبات وأثمان الشراكة والتداول القيادي.. وهو ما ليست فتح في وارده في هذه المرحلة.
من ناحية ثالثة، فبعد نحو 13 عاما من اتفاق القاهرة بين الفصائل لإعادة بناء منظمة التحرير وتفعيلها، لم تقم قيادة المنظمة بخطوة حقيقية واحدة في هذا الإطار.
وهذا يعني أن قيادة المنظمة أغلقت الباب و”بلعت المفتاح“..
والسؤال: إلى متى ستبقى حماس ”تطرق الباب“؟
رابعا: ماذا بعد المقاومة في غزة؟
العمل العسكري المقاوم في قطاع غزة وصل ذروته ضمن الإمكانات المتاحة، والإنجازات الرائعة للمقاومة فوق الأرض وتحتها لا ينكرها إلا جاحد، وتضحيات المقاومة وبطولاتها أصبحت مدرسة عالمية ونموذجا يُفتخر به.
أما وأن الحصار على غزة قد بلغ مداه، وأن تحمل الأعباء المعيشية لمليوني فلسطيني لم يعد متاحا. ومع انتفاء حالة الاحتكاك المباشر مع العدو بسبب انسحابه من القطاع، ومع توقف الاشتباك المسلح عبر حدود القطاع، ومع تزايد احتمالات استهداف العمل المقاوم إذا ما أصرَّت سلطة رام الله على تطبيق معاييرها والتزاماتها في القطاع.. فإن مشروع العمل المقاوم ومشروع التحرير لا يمكن أن يبقى رهينة هذا الحال. كيف يمكن للضفة الغربية أن تستعيد عافيتها ودورها المقاوم؟ وما دور أبناء فلسطين المحتلة 1948 في مشروع المقاومة؟ وإلى أي مدى، وفي أي ظروف، وتحت أي شروط يستطيع العمل المقاوم من الخارج أن يستعيد تألّقه السابق عندما كان هو مركز العمل المقاوم؟
خامسا: التموضع الإقليمي
إذا كانت معظم القوى الإقليمية واللاعبون الدوليون الكبار في المنطقة يعادون تيارات ”الإسلام السياسي“، كما يعادون قوى المقاومة أو على الأقل يَضيقون بها.. فإن حماس قد اجتمع عليها العداء ”المزدوج“ لهذه القوى.
وبالرغم من أن حماس ”بلعت السكين“ في الكثير من الظروف، وفي العديد من البلدان الإقليمية، تجنبا للتدخل في الشؤون الداخلية، وحرصا على أن تكون قضية فلسطين عنصر وحدة، وسعيا لتوجيه العداء ضد المشروع الصهيوني.. فإن محاصرتها وخنقها ومحاولات ”تكسير مجاديفها“ وإضعافها لم تتوقف.
وفوق ذلك، فقد دفعت حماس أثمانا مضاعفة نتيجة وقوفها الطبيعي كحركة مقاومة وكحركة شعبية مع حق شعوب المنطقة في الحرية، والتعبير عن نفسها من خلال نظام سياسي يعكس إرادتها الحقيقية، بعيدا عن التدخل الخارجي والاستبداد السياسي.
دفعت حماس أثمانا مضاعفة نتيجة وقوفها الطبيعي كحركة مقاومة وكحركة شعبية مع حق شعوب المنطقة في الحرية، والتعبير عن نفسها من خلال نظام سياسي يعكس إرادتها الحقيقية، بعيدا عن التدخل الخارجي والاستبداد السياسي
فإذا كانت البيئة الإستراتيجية المحيطة بفلسطين هي ”رئة“ الداخل الفلسطيني؛ وإذا كانت هذه البيئة تحتضن أغلبية الشعب الفلسطيني في الخارج؛ وإذا كانت هذه البيئة نفسها بيئة تعاني من حالة ”السيولة“ و”التشكُّل وإعادة التشكُّل“؛ وهي بيئة بقدر ما تحمل من مخاطر وتحديات بقدر ما قد تحمل من فرص وآفاق.. فكيف ستتموضع حماس وقوى المقاومة في ”حقل ألغام“ كهذا بأقل قدر من الخسائر.. وأكبر قدر من الاستفادة من الفرص.
سادسا: مسألة الهوية الإسلامية والهوية الوطنية
لا تجد لدى معظم كوادر وقواعد حماس مشكلة في الجمع بين الهويتين الإسلامية والوطنية، لأن الإسلام يحض على حب الوطن والدفاع عنه وتحريره من العدو والارتقاء به. ولأن الأغلبية الساحقة للشعب الفلسطيني هي أغلبية مسلمة.
عندما انطلقت حماس كان من الواضح أنها تقدم نفسها كحركة إسلامية شاملة، وأن العمل الوطني هو من مكوناتها ومن مهامها المنبثقة عن فهمها الإسلامي. غير أن السنوات الماضية شهدت لدى ”البعض“ تضخيما للهوية الوطنية على حساب الهوية الإسلامية.. أدى أحيانا إلى انتقال ”لا شعوري“ لمحور العمل، وتمركزه في ”الهوية الوطنية“، وإلى تحوُّل الهوية ”الإسلامية“ لدى ”البعض“ إلى ”أداة“ من أدوات العمل الوطني، وليس العكس. وبالطبع فقد كانت المبررات جاهزة في ضرورة التركيز على ”مجال الاختصاص“، والنأي بالنفس عن صراعات المنطقة، والبحث عن قواعد مشتركة مع القوى الوطنية والعربية المختلفة، وعدم استثارة عدائها للتيارات الإسلامية، خصوصا مع تصاعد الظواهر ”التطرف الإسلامي“، وتصاعد العداء الإقليمي والدولي لتيارات ”الإسلام السياسي“.
السنوات الماضية شهدت لدى ”البعض“ تضخيما للهوية الوطنية على حساب الهوية الإسلامية.. أدى أحيانا إلى انتقال ”لا شعوري“ لمحور العمل، وتمركزه في ”الهوية الوطنية“، وإلى تحوُّل الهوية ”الإسلامية“ لدى ”البعض“ إلى ”أداة“ من أدوات العمل الوطني، وليس العكس
وفي الوقت نفسه، فإن هذا ”البعض“ مارس سياسة براغماتية نَحَتْ نحو التعامل مع البعد الإسلامي كبعد ”وظيفي خدماتي“ مرتبط بقدرة الآخرين على دفع أثمان أعماله وتحمل أعباء برنامجه، نائيا بنفسه عن قواعد ”الشراكة“، أو الاستحقاقات الناتجة عن وحدة الدين والهوية والمسؤولية؛ بما يحفظ حدا مقبولا من ”المصداقية“. وفي هذه الأحوال، يصبح هذا ”البعض“ غير مقبول لدى القوى والتيارات الإسلامية باعتباره ”انتهازيا!“.
ما يكتشفه المرء عند الدخول في نقاشات مع ”البعض“ مدى ”التسطيح“ في تناول مسائل عقائدية وأيديولوجية حساسة، وطغيان الجانب البراغماتي على البعد ”الرسالي“.. مع قلة وضحالة المنتج الفكري. كيف يمكن التعامل مع هذه الثنائية الحساسة بشكل مبدع، وكيف يمكن تنزيلها على الواقع في ضوء رؤية إسلامية حضارية شاملة لمشروع التحرير تستوعب الواقع وتعقيداته، وتتعامل مع البعد الوطني كمكون إيجابي وأصيل، منسجم وغير منفصل عن هذه الرؤية.
سابعا: بين ثورية المشروع وبيروقراطية البُنى والأداء
وهي إشكالية تحدث في المنظمات الثورية التي تتسع شعبيتها ومديات أعمالها وتصبح عنصرا فاعلا في العمل السياسي سواء من خلال المشاركة في الحكم ومؤسساته، أم من خلال شبكات العلاقات والمؤسسات والبنى الخدماتية التي تقيمها.
وإذا ما ترافق ذلك مع حالات استقرار معيشي، أو هدوء ثوري، مع اتساع الإيرادات المالية، وعمليات التفريغ الوظيفي للكوادر؛ وتعوّد الكثيرين على رتابة العمل، مع ميل أكبر لعدم تغيير نمط الحياة؛ مع صعوبة عمل الأدوات الرقابية والمحاسبية في بيئات معقدة تستلزم الكثير من السرية والحذر.. فإن مثل هذه البيئات تحتمل نشوء ”طبقة مصالح“، مرتبطة باستقرار الأوضاع ولو على حساب الثورة والتغيير، كما تحتمل وجود حالات من الترهل والبطالة المقنَّعة والإسراف.. التي قد تصبح أحد معوقات وأحد أدوات استنزاف المشروع، خصوصا إذا ما واجهت ظروفا خطيرة مستجدة.
ولأن حماس تتقلب بين بيئات ثورية وبيئات مؤسساتية، فكيف تُحقّق الـ ”المعادلة الصعبة“ في المحافظة على الروح الجهادية الرسالية، وفي القدرة العالية على التكيّف السريع والمرن مع مختلف الأحداث والتحديات، وفي الاستفادة القصوى من الموارد البشرية والمالية؛ مع تكريس ثقافة الشفافية والمحاسبة؟
ثامنا: كيف يكون التنوع الجغرافي والشتات قيمة مضافة وليس عبئا؟
دفع الفلسطينيون ثمنا هائلا نتيجة تشتتهم الجغرافي الداخلي بين فلسطين الـ 48 والضفة والقطاع، وتشتتهم في الخارج في عشرات الدول في الكرة الأرضية. غير أن ذلك قد يمثل قيمة نوعية كبيرة في إدارة المشروع، بطريقة تستفيد من المزايا النوعية لأي مكان، مع صعوبة القضاء على المشروع بسبب انتشاره الواسع. وإذا كان ثمة حاجة لتمثيل التنوع بشكل عادل ومعقول في المؤسسات التشريعية الشورية؛ فإن نقل عقلية المحاصصة الجغرافية (مع غض النظر عن الأهلية والخبرة والكفاءة) إلى الأطر القيادية الإدارية والتنفيذية قد يوجد أجواء عمل مضطربة، وحساسيات وحسابات ضيّقة تُضعف القدرة على الإنجاز والمحاسبة، وتتسبَّب بإيجاد بيئات للشقاق والانشقاق.
وإذا كانت المحاصصة القيادية قد ظهرت بشكل محدود لبعض الأسباب الموضوعية، فكيف يمكن التعامل معها كحالة استثنائية، وكحالة ضرورة تُقدَّر بقدرها وتزول بزوال أسبابها؟ مع السعي للحفاظ على أقصى درجات الفاعلية القيادية والمؤسساتية، التي عندما تراعي الجغرافيا، فلا ينبغي أن تقع أسيرة لحساسياتها، على حساب المشروع.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- الجزيرة نت