في الشدائد تظهر معادن الرجال، والظرف الذي تمر به غزة هو الأصعب على الإطلاق بعد حصار دام أكثر من عشر سنوات، ضاق الحال بالناس، وكثرت الديون، وامتلأت السجون بالغارمين، وقلة حركة البيع والشراء، وانعدمت الرواتب، وربطت الناس على بطونها أحجاراً وليس حجراً واحداً، وبدأ المدينون يهربون من أمام المحلات التجارية والدكاكين حتى لا يراهم ملاكها فيطلبون ديونهم.
مبادرة انطلقت من فرد واحد وسط قطاع غزة ابتدأها بإعفاء كل الديون عن المدينين من موظفين أو فقراء أو لا يجدون عمل في محله التجاري، وذيّلها بهاشتاق #سامح_تؤجر.
كالنار في الهشيم انتشر الهاشتاق بين الناس كباراً وصغاراً، بكافة أطيافهم وتوجهاتهم، وحاول الجميع المشاركة في الحملة، أصحاب المحلات التجارية بدؤوا ينشرون دفاتر الدين وهم يشطبون على مئات الأسماء من الغارمين، وبدأ الأطباء يعلنون عن فحص وعلاج مجاني للمرضى، ثم انضم لقافلة الحملة المحامون والسائقون، والمزارعون، في مشهد تطوعي خيري متكامل لم يرد لا في النظم الرأسمالية ولا الاشتراكية، بل أكثر جمالاً منطلقاً من الدين الإسلامي الحنيف، ابتغاء الأجر من الله عز وجل.
تكشف غزة اليوم عن معدنها النقي حال فلسطين التي كان يؤمها الشرق والغرب، والتجار من كل حدب وصوب، فعلى مدار تاريخها كانت مشعلاً للكرم، وحسن الضيافة، تقاد لها رحلات للعبادة أو التجارة، وكثير من الأماكن القديمة ما تزال شاهدة على ذلك خصوصاً في مدينة غزة القديمة والمسجد العمري، وقصر الباشا، ومقام جد النبي هاشم بن عبد المناف الذي أقام فيه سنين طويلة، كذلك هناك شواهد حاضرة في مدينة الخليل القديمة ونابلس والقدس وغيرها.
فلسطين على مدار تاريخها كانت مثالاً لكرم الضيوف القادمين من أقاصي الأرض، وليس غريباً عليها أن تخرج بمشهدها الجميل، في حملة تكافل هي الأكبر والأصعب من نوعها وسط معاناة الناس وآلامهم، تظهر مبادرات الرجال الذين يقتسمون الخبز فيما بينهم حتى لا تسقط الراية.
فلسطين على مدار تاريخها كانت مثالاً لكرم الضيوف القادمين من أقاصي الأرض، وليس غريباً عليها أن تخرج بمشهدها الجميل، في حملة تكافل هي الأكبر والأصعب من نوعها وسط معاناة الناس وآلامهم
وعلى وجه السرعة شكل شباب غزة حاضنة أولى لحملة سامح تؤجر، وبدؤوا بتوزيع المستلزمات على البيوت الفقيرة، من خضروات وأموال وألبسة وأغطية في الشتاء، وعلى رأي المثل "الجود من الموجود" في الوقت الذي يحاربون فيه بقوت يومهم، ولقمة عيشهم، يقتسمون ما تبقى منها بينهم.
المشهد الجمالي الآخر للحملة بان وجهها النقي إذ غابت الفصائلية والحزبية عنها، فشارك الجميع فيها بكل توجهاتهم وآرائهم، كأنهم يقولون معاناة الناس فوق كل شيء، وأكبر من كل شيء، فقد رأيت في الحملة أناساً ضعفاء شاركوا فيها، وآخرين أغنياء، ومخاتير وكبار من القوم، وتجار وبائعين وحلاقين وسائقين وموزعي خدمات، في حملة هي الأطهر والأكبر والأجدر بالقياس في ظل الظروف المادية الصعبة التي يعيشها أبناء قطاع غزة.
تثبت الحملة التطوعية روح التكافل، وأن الخير في الناس موجود، والكثير والقليل سيان إذا كان الهدف إنقاذ الإنسان، ورفع روحه المعنوية لتحدى الصعاب أمام مجتمع دولي ظالم غض الطرف عنهم، وحاربهم في قوت يومهم.
تثبت الحملة التطوعية روح التكافل، وأن الخير في الناس موجود، والكثير والقليل سيان إذا كان الهدف إنقاذ الإنسان، ورفع روحه المعنوية لتحدى الصعاب أمام مجتمع دولي ظالم غض الطرف عنهم، وحاربهم في قوت يومهم
ترسل الحملة رسالتها الأقوى لكل المسؤولين الذين تركوا غزة في هذه الظروف ففرضوا عليها العقوبات، وخاضوا ضدها المعارك والنزوات، لإخضاع أهلها وتركيعهم، وسلب حقهم في المقاومة لتحرير أرضهم، وأن التاريخ لن يسامح كل من وقف في وجه غزة، وأن محاولات تقسيم أهلها وزرع الفتنة والبغضاء بينهم ستفشل جميعها أمام هذا المد الكبير للحملة، والذي شارك فيها الصغير قبل الكبير.
إنه المشهد الأجمل للتكافل الاجتماعي، والعمل التطوعي، ففي الناس خير كثير، وأهل فلسطين هم أهل الخير والعطاء، والبذل بالروح والمال، لأجل القضية الأسمى والأطهر على الإطلاق، وما أثبتته حملة التكافل هذه أن شعباً معطاءً بذل كل ما بوسعه على مدار سنوات طويلة يستحق قيادة أفضل تقف معه وتشعر بمعاناته، فهذا الشعب وحدته الصعاب وفرقته القيادة.