حين تدعو إلى الالتقاء والتآلف والتعاون بين التيارات الإسلامية القائمة اليوم؛ كثيراً ما تواجهك عبارة استدراكية تقول: "مستعدون لهذا التعاون بشرط أن نرد خلافاتنا للكتاب والسنة، مصداقاً لقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}".
وبالطبع؛ لم يكن لمسلم أن يعترض على هذا الشرط، ولكن فهمه بشكل مغلوط يثير شيئاً من الغرابة، فالتيارات المدعوّة للتلاقي والائتلاف هي تيارات إسلامية، تتخذ من الإسلام منهجاً، وتشكّل قناعاتها بناءً على فهم علمائها للكتاب والسنة، وإنِ اختلفت الأقوال في المسألة الواحدة؛ فهذه هي طبيعة الإسلام، ومن لا يدركها لا يدرك حقيقة هذا الدين.
حنانيك؛ فلا تسارع في إنكار ما سبق، فالذي أقصده هو أن الكتاب والسنة يشتملان على نصوص كثيرة تحتمل عدة أفهام، وفي هذا توسعة على الأمة، إذ قد تضطر إلى الأخذ بقول من الأقوال حين تضيق عليها أحوال، والله تعالى أعلم.
الكتاب والسنة يشتملان على نصوص كثيرة تحتمل عدة أفهام، وفي هذا توسعة على الأمة، إذ قد تضطر إلى الأخذ بقول من الأقوال حين تضيق عليها أحوال
ولو أخذنا مثالاً على ذلك مما يتعلق بمسائل الاعتقاد.. قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: "المؤمن المهيمن":
"قوله تعالى (المؤمن) أي المصدّق لرسله بإظهار معجزاته عليهم، ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب، ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب.
وقيل: المؤمن الذي يؤمّن أولياءه من عذابه، ويؤمّن عباده من ظلمه، يقال: آمنه؛ من الأمان الذي هو ضد الخوف، كما قال تعالى: (وآمنهم من خوف) فهو مؤمن...
وقال مجاهد: المؤمن الذي وحّد نفسه بقول (شهدَ الله أنه لا إله إلا هو)...
(المهيمن..) قال قتادة: المهيمن معناه المشاهد.
وقيل: الحافظ.
وقال الحسن: المصدِّق" اهـ.
فهنا نرى كيف أن أقوال أهل العلم اختلفت في فهم معنى أسماء الله تعالى الحسنى، رغم أنه أمرٌ متعلق بالله تعالى الذي نوحّده ونعبده، بيد أن الكلمة بغض النظر عن كونها متعلّقة بالاعتقاد أو بالأحكام؛ تحتمل أكثر من معنى، فمن الطبيعي جداً أن يقع في فهمها خلاف.
ولكي نعرض المسألة من جانبها الآخر أيضاً؛ فلا بد أن نقف على مثال يختص بمسائل الأحكام العملية، وحتى لا أستطرد كثيراً؛ أكتفي بالإشارة إلى مباحث الطلاق - الصريح وغير الصريح -، والخلاف الواسع المتشعّب في مسائله، مع أنه أمرٌ متعلق باستحلال الفروج من عدمه، فذاك يقول: هي تطلق منه، والآخر يقول: بل تحلّ له ولا شيء عليه، وأكثر هذه المسائل متعلق بفهم النص لا بثبوته.
أما ثبوت النص؛ فذاك بابٌ مستقل من أبواب وقوع الاختلاف في المسألة الواحدة، ولو أخذنا مثلاً حديث "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"؛ فمن يصحح الحديث يقول بوجوب التسمية عند الوضوء، أو شرطيتها، ومن يضعّفه يقول بسنيتها لأحاديث أخرى، أو إباحتها، أو بدعيّتها، كما يُروى عن الإمام مالك رحمه الله.
ويَحسن أن ننقل هنا قول إسحاق بن راهويه رحمه الله في مسألة التسمية عند الوضوء، حيث قال: "إنها واجبة، إنْ تركها عمداً بطلت طهارته، وإنْ تركها سهواً أو معتقداً أنها غير واجبة؛ لم تبطل طهارته".
فانظر إلى أقصى درجات الخلاف في الأمر الواحد بسبب الاختلاف في ثبوت النص، فمن قائل بأن التسمية واجبة وشرط في صحة الوضوء، إلى قائل بأنها بدعة!!
ولا تستغرب ذلك؛ فهذه مسألة الحلف بغير الله تعالى، اختلف فيها أهل العلم مع ورود حديث ينسب الكفر أو الشرك للحالف بغير الله.. قال ابن حجر في "فتح الباري" بعد أن ساق حديث "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك":
"هل المنع للتحريم؟ قولان عند المالكية، كذا قال ابن دقيق العيد، والمشهور عندهم الكراهة.
والخلاف أيضاً عند الحنابلة، لكن المشهور عندهم التحريم.
وبه جزم الظاهرية.
وقال ابن عبدالبر: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع.
ومراده بنفي الجواز الكراهة؛ أعم من التحريم والتنزيه، فإنه قال في موضع آخر: أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة، منهيٌّ عنها، لا يجوز لأحد الحلف بها.
والخلاف موجود عند الشافعية؛ من أجل قول الشافعي: أخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية، فأشعرَ بالتردد، وجمهور أصحابه على أنه للتنزيه.
وقال إمام الحرمين: المذهب القطع بالكراهة.
وجزم غيرُه بالتفصيل؛ فإنِ اعتقد في المحلوف فيه من التعظيم ما يعتقده في الله؛ حرم الحلف به، وكان بذلك الاعتقاد كافراً، وعليه يتنزل الحديث المذكور. وأما إذا حلف بغير الله لاعتقاده تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم؛ فلا يكفر بذلك ولا تنعقد يمينه.." اهـ.
والحديث المذكور اختلف أهل العلم فيه بين مصحّح ومحسّن ومضعّف.
وحتى لا نطيل؛ نخلص إلى القول بأن اختلاف الأقوال في المسألة الواحدة؛ يجعلنا نتوقف في الجزم بأن هذا القول هو الموافق للكتاب والسنة، وذاك مخالف لهما، فطالما أن النصوص تحتمل هذا القول وذاك؛ فكلاهما في نظر أصحابهما موافق للكتاب والسنة، وجَزمُ أحد الفريقين بأنه قوله هو الموافق للكتاب والسنة وأن سواه خارج عنهما؛ مجازفة لا طائل تحتها.
طالما أن النصوص تحتمل هذا القول وذاك؛ فكلاهما في نظر أصحابهما موافق للكتاب والسنة، وجَزمُ أحد الفريقين بأنه قوله هو الموافق للكتاب والسنة وأن سواه خارج عنهما؛ مجازفة لا طائل تحتها
وعليه؛ فإن رد الأقوال المتعددة في المسألة الواحدة إلى الكتاب والسنة، والذي يقتضيه قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}؛ لا يستلزم بالضرورة الاتفاق على قول واحد، وإنما هو ردٌّ إلى دلالات النص، فإن احتمل النص أكثر من معنى؛ كان كل آخذ بأحد هذه المعاني متمسكاً بالكتاب والسنة.
ومما يُمكن فهمه من معنى "رد التنازع" إلى الكتاب والسنة؛ أن نحترم كل الأقوال التي تحتملها النصوص، ونعذر أصحابها، ولا ننتقص من حبهم لله ولرسوله، أو رغبتهم في اتباع الوحي، ولا نرى أن الخيرية فينا دونهم، فلعلّهم أصابوا وأخطأنا، ولعلّهم ظفروا بالأجرَين، وظفرنا بالأجر الواحد.