المتابع لحال الناس وخصوصاً الشباب هذه الأيام، يلحظ لديهم حالة واضحة من عدم الثقة بالدعاة والوعّاظ، وميولاً نحو الفوضى في فهم الدين وتطبيقه، إن لم يكن نحو صورة من صور الإلحاد، وعدم الاكتراث للحلال والحرام، أو الالتزام بما يأمر به الشارع وينهى عنه.
ولقد بات واضحاً للعيان، أن الهيبة والاحترام اللذين حظي بهما #الدعاة و#العلماء باتا اليوم في مهب الريح، بسبب الكثير من المواقف التي ربما هزت أركان الثقة بهم، وما زالت تقطع الوشائج التي تربطهم بهم يوماً بعد يوم.
فما أن يظهر داعية ويبرز نجمه، ويلتف الناس حوله، إلا وسقط سقوطاً لا قاع له –إلا من رحم ربي- وأصيب الشارع بصدمة كبيرة، وانقسموا بين مبرر ومدافع؛ لتعلقه بذات الشخص، وعدم استيعابه للصدمة، وبين محبط يجعل الصورة عامة فيما بعد لكل من يسير على ذات الخط والطريق.
لكن السؤال المهم، لماذا يحدث هذا؟
الجواب: لأن الكثير من الدعاة يقومون ببعض الأعمال التي تجعلهم يتحملون مسؤولية ذلك، ولهذا لا ألوم الناس لأنهم المتأثرون، وليسوا المؤثرين، صحيح أن بعضهم لديهم انحرافات فكرية، أو يتأثرون بما يثيره الآخرون من شبهات، لكنهم ليسوا المعنيين بكلامي، وإنما من أقبل على الدين بكل رضا وقناعة، وتحلى بالحرقة والحماسة لخدمة دينه، ثم خفتت همته، أو نكص على عقبيه بعد ما شاهد من مواقف وتصرفات.
وأسرد في هذا المقال بعضاً من الأعمال التي تنفر الناس عن الدين، والتي يقوم بها بعض الدعاة والعلماء.
1- افتعال المعارك الجانبية، وترك الأمور الهامة.
هناك الكثير من الدعاة –مع الأسف- يقضون وقتهم ويستنفذون جهدهم في معارك هامشية، وقضايا جزئية بعيدة عن الواقع، أو لا ينتج عنها إلا تعكير صفو الأخوة والمودة بين الناس. فلا يرون في غيرهم من الدعاة إلا عيوبهم، ويتركون كل ما يقولونه من صواب، ثم يركزون على قضية "خلافية" أبدى أحد الدعاة رأيه فيها وخالف فيها رأياً مشهوراً، أو معتمداً لطائفة من الدعاة والعلماء.
هناك الكثير من الدعاة –مع الأسف- يقضون وقتهم ويستنفذون جهدهم في معارك هامشية، وقضايا جزئية بعيدة عن الواقع، أو لا ينتج عنها إلا تعكير صفو الأخوة والمودة بين الناس
والأدهى والأمر حينما يصل الحال بالتحذير من الاستماع له، أو تداول دروسه، وتحريمها، واعتباره ضالاً مضلاً، مع العلم أن الأمر خلافي، يقبل الاجتهاد والتعددية.
وحتى أكون منصفاً فالإنكار مقبول إن تناول هذا "الداعية" الثوابت والقطعيات، بالهمز واللمز أو الإنكار، لكن من غير المقبول أن أجعل من قضية خلافية ذات آراء كثيرة مسألة يبنى عليها حق وباطل وإيمان وكفر .
كم من الدعاة ضيعوا وقتهم في مناقشة جدليات الأسماء والصفات لله تبارك وتعالى، وجعلوا دروسهم في المساجد ترتبط بهذا الأمر، علماً أن مكان نقاشه الصحيح في المجالس والكليات العلمية، وليس أمام الناس الذين لا يعرفون ما هي أركان الإيمان ولا كيف يصلون صلاة صحيحة!!
الناس يحتاجون إلى من يزرع فيهم الإيمان، واليقين والثقة بالله، ومن يعلمهم الحرية والصبر وتذكر الله والخوف منه والرجاء في رحمته .والناس يريدون من يبين لهم الأحكام فيما يعتريهم من شؤون يومهم، ويبين لهم كيف يؤدون أوامر الله على النحو الذي يرضاه عنهم، ولنتخيل.. كم من العلماء والدعاة بذلوا جهدهم في توضيح مفهوم الزكاة وكيفيتها بطريقة مبسطة يفهمها العوام والبسطاء، خصوصاً في ظل تطورات الحياة الاقتصادية وتعقيدها، علماً أن نفعها يعود على الجميع دون استثناء؟!
وفي وقتنا الحالي هناك موجة إلحادية وتشكيك بثوابت ديننا تجتاح شباب المسلمين، والفضائيات ووسائل التواصل باتت تمثل أبواقاً لترويج هذه الأفكار، فأين العلماء منها، وأبناء المسلمين يتعرضون لهذه الهجمات مرة تلو الأخرى.
ولهذا حينما يبحث الشباب عن العلماء فلا يجدونهم إلا منشغلين بمسائل قديمة، أو جدليات قتلت بحثاً ومناقشة، فلا غرابة أن يبحثوا عن قدوات وموجهين آخرين، حتى لو كانوا منحرفي الفكر وضالي المنهج!
حينما يبحث الشباب عن العلماء فلا يجدونهم إلا منشغلين بمسائل قديمة، أو جدليات قتلت بحثاً ومناقشة، فلا غرابة أن يبحثوا عن قدوات وموجهين آخرين، حتى لو كانوا منحرفي الفكر وضالي المنهج!
2- عدم إتقان واجباتهم في أماكنهم.
كنت قبل فترة قد خضت نقاشاً مع صديق لي حول الفائدة التي نجنيها من حضور صلاة الجمعة في مسجد معين غير الأجر والثواب، والنتيجة كانت أن "لا شيء" فالإمام يقرأ الخطبة المقررة له مسبقاً من الوزارة، أو يكتب خطبة لا تمت للواقع بصلة، أو يعيد خطبة قرأها على مسامعنا مراراً وتكراراً.
بل في بعض المساجد يقوم الإمام بتخصيص بعض الخطب لقراءتها (بنفس كلماتها وجملها وتعبيراتها ونصوصها) في كل مناسبة، أو في نفس التاريخ الهجري من كل عام، حتى أن البعض صاروا يعرفون ما سيقوله الخطيب بالتفصيل؛ لأنهم سمعوا خطبته منه حرفياً ست أو سبع مرات إن لم يكن أكثر!
إن الناس بفطرتهم يميلون للاستفادة والالتفاف حول كل من يعلمهم أمور دينهم، فإذا كان غير متقن، كإمام أو خطيب، أو مدرس جامعي أو أستاذ مدرسي، فإنهم لا يأخذون موقفاً منه وحده بل يقوم البعض بتشكيل صورة نمطية عن كل من هو مثله –وإن كان ذلك خطأ-.
إن الناس بفطرتهم يميلون للاستفادة والالتفاف حول كل من يعلمهم أمور دينهم، فإذا كان غير متقن، كإمام أو خطيب، أو مدرس جامعي أو أستاذ مدرسي، فإنهم لا يأخذون موقفاً منه وحده بل يقوم البعض بتشكيل صورة نمطية عن كل من هو مثله –وإن كان ذلك خطأ-
وهذا يعني أنهم لا يأتون إليه في المساجد على سبيل المثال إلا لرفع العتب والحرج، وعدم الوقوع في الإثم؛ لأنهم لم يعودوا مقتنعين بما يقدمه لهم، فهو لا يقدمه إلا لأنه موظف، وليس لأنه داعية يحمل رسالة وأمانة عليه أن يوصلها للناس.
وعدم إخلاص الداعية وإتقانه لعمله وتجويده وإخراجه على أفضل صورة، هو خيانة للأمانة الموكلة عليه، قبل أن يكون سبباً لتنفير الناس من الدين، وإساءة صورته لديهم.
3- إرضاء السياسيين.
من أخطر القضايا التي تواجه الدعاة هي إخضاع النصوص والفتاوى للرأي السياسي السائد أو المعتمد للدولة أو الحزب وغير ذلك .فإذا كان توجه الدولة لأمر ما، قام بعض "الدعاة" بسوق الأدلة وتعليل توجهاتهم بأنها توافق مقصد الشريعة، وأنهم أصحاب نظر وقراراتهم توافق الدين، وكل من يخالفهم عدو للدين والشرع، ثم إذا غيروا رأيهم قاموا بتغيير فتواهم، وسرد الأدلة على صحة الرأي الثاني، ووصف من يتمسك بالرأي الأول بأنه رجعي ومخالف لمقاصد الشريعة وروحها!
ولست بصدد ذكر الأمثلة على ذلك، فهي معروفة للجميع، لكن لا بد من التنبيه على بعض القضايا في هذا الصدد:
- ليس خطأ أن أقف مع السلطة السياسية في رأيها أو الإطار الحزبي الذي أتبع له، أو غير ذلك، طالما أن الرأي لا يخالف الشرع، وموافق لأحكامه، لكن على أن لا أشدد في الأمر وأصف المخالفين بأنهم قد خالفوا الشريعة، بحيث أوقع نفسي في حرج إن غيرت القيادة رأيها، فأعود لأبرر مواقفي، وأنقض كلامي وهو ما يقتل مصداقيتي أمام الناس.
ليس خطأ أن أقف مع السلطة السياسية في رأيها أو الإطار الحزبي الذي أتبع له، أو غير ذلك، طالما أن الرأي لا يخالف الشرع، وموافق لأحكامه، لكن على أن لا أشدد في الأمر وأصف المخالفين بأنهم قد خالفوا الشريعة، بحيث أوقع نفسي في حرج إن غيرت القيادة رأيها
- في حال كنت مخالفاً للسلطة في قرارها، فليس خطأ أن أوضح موقفي من المسألة، وأن أبين أنهم اختاروا رأياً آخر –إن كانت المسألة خلافية- وأتمنى لهم التوفيق والسداد، وفي الوقت نفسه أصرح بموقفي وأرفض إن كان مخالفاً لأحكام الشرع، فهذا يعني أنني لا أتنازل عن رأيي، وأنني صاحب موقف مما يكسبني الاحترام من قبل الناس جميعهم.
- في حال خاف الداعية على نفسه من بطش السلطة وفتكها إن صرح بموقفه، ولم يكن له منعة أو تأثير كبير بين الناس، فلا حرج بالسكوت؛ لأن إنكاره لن يؤتي أكله إعلامياً وسياسياً، لكنه عليه أن يفكر كيف ينكر المنكر بطريقة أكبر تأثيراً في المستقبل، ويندب له أن يأخذ بالعزيمة فيصرح بالرفض ويعرض نفسه للمخاطر. والأمر يعتمد على الداعية وظروفه ووضع الدولة ومقدار بطشها ومدى التفاف الناس حوله وغير ذلك.
4- عدم تجديد الخطاب.
نحن اليوم في القرن الواحد والعشرين، وهذا يعني أننا نشهد في كل فترة تغييراً كبيراً في طريقة مخاطبة الناس والتواصل بهم، فمن الكاسيت، والمنشورات والمطويات، مروراً بالتلفاز والراديو والمواقع الإلكترونية والمدونات الشخصية، وانتهاء بوسائل التواصل الاجتماعي، والانفوجراف، والبث المباشر على هذه الوسائل وغير ذلك. ومع ذلك نجد فجوة كبيرة بين طريقة الخطاب الدعوي لدى البعض وما يستخدمه الناس من وسائل الخطاب المختلفة. ونحن نحتاج إلى الدعاة الذين يجمعون بين جمالية الأداء وإتقانه على وسائل التواصل، وبين أصالة الطرح المنطلق من الثوابت الدينية.
نحن نحتاج إلى الدعاة الذين يجمعون بين جمالية الأداء وإتقانه على وسائل التواصل، وبين أصالة الطرح المنطلق من الثوابت الدينية
إن التجديد لا يتعلق فقط بكيفية إيصال الرسالة للناس فحسب، بل بما تحتويه الرسالة، فلا حاجة للناس لأن يتعلموا أحكام العبيد في الصلاة أو المكاتبة، ولا حاجة لهم لأن يستمعوا للخلافات الفقهية في بعض المسائل القديمة بل محلها في مجالسها العلمية، وكذلك الحال على الداعية أن يكون مواكباً لعصره وتحدياته، يركز في خطابه على ما يواجهه مجتمعه من قضايا ولا يعيد تكرار الماضي والناس لا تدرك حقيقته ولم تعايشه .
5- التشديد وعدم التيسير.
التسير ورفع الحرج عن الناس هو مقصد معتبر للشارع، وكما قال تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة:185]، وفي الحديث الشريف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا..) (متفق عليه).
ومع ذلك نجد من الدعاة والعلماء من يشدد على الناس في الفتوى بحجة أن هذا الرأي أسلم، أو أنه أحوط، مع أن المسألة تحتمل أكثر من وجه، وكل آرائها معتبرة.
على الداعية والمفتي أن يدرك أن الناس ليسوا مثله في القوة والراحة والورع والفضل، فهم يبحثون عمن يسهل لهم أمور دينهم، لا من يعقدهم في ذلك، ويشدد عليهم ويجعل الأصل الحرمة في كل فتاويه.
على الداعية والمفتي أن يدرك أن الناس ليسوا مثله في القوة والراحة والورع والفضل، فهم يبحثون عمن يسهل لهم أمور دينهم، لا من يعقدهم في ذلك، ويشدد عليهم ويجعل الأصل الحرمة في كل فتاويه
لا يعني هذا أن نتساهل في الفتوى، لكن على الداعية أن يشدد في الموضع الذي يستشعر أنه لابد من التشدد فيه، وإلا فالأصل التخفيف على الناس والتيسير عليهم، طالما أن تعدد الرأي والخلاف فيها مقبول ومستساغ.
ويصبح الأمر أسوأ حينما تجد بعض الدعاة يمايزون بين الناس في الفتوى دون سبب معتبر، فالمسألة حرام على الآخرين، حلال له ولأهله ومعارفه!
لذا لا حرج على الداعية أن يشدد على نفسه ويأخذ بالأحوط والورع فيما يتعلق به، لكن ليس على حساب الناس، مما يوقعهم أحياناً بالحرج والمشقة .
6- التسرع في الفتوى وعدم الفهم.
هذه النقطة هي نتيجة لما قبلها، فبعض الدعاة يجد نفسه قد تصدر المشهد، وأصبح مفتياً للناس دون بضاعة، فتجده يفتي بالآراء الشاذة أو المخالفة لقطعيات النصوص دون حياء أو خجل، ويستغل سمعته الإعلامية أحياناً لإنكار ما يقوم به الآخرون من أمور تستند إلى دليل شرعي صحيح، لكنه لم يفهم المسألة ولم يطلع عليها، مما ينفر الناس عنه حينما يكتشفوا حقيقته، وتسرعه وخطأه.
وفي مقولة متداولة: "من كثر علمه قل إنكاره" أي إنكاره على مسائل الخلاف، وليس إنكاره على ما يقوم به الناس من خطأ، فالعالم بآراء الفقهاء واجتهاداتهم، لا ينكر على الناس إن رأى أحدهم يقوم بأمر له مذهبه ومستنده الصحيح .
لا حرج على الداعية أن يقول أنه ليس مفتياً، فالداعية وظيفته إيصال الرسالة للناس، أما المفتي فوظيفته أخطر وأشد، والخطأ فيها كفيل بجلب الآثار السلبية على المجتمع بشكل عام.
لا حرج على الداعية أن يقول أنه ليس مفتياً، فالداعية وظيفته إيصال الرسالة للناس، أما المفتي فوظيفته أخطر وأشد، والخطأ فيها كفيل بجلب الآثار السلبية على المجتمع بشكل عام
هذه باختصار بعض الأساليب التي يمكن أن تنفر الناس من الدين، وتشجعهم على الانحراف عن جادة الصواب، وإني موقن أن هناك أموراً أخرى لكنها تختلف باختلاف المجتمعات والدعاة والتحديات، لكن على كل داعية أن يستشعر عظم الأمانة التي تحملها، والمخاطر الفادحة التي ستنتج بسبب تقصيره أو عدم اهتمامه بما وكل به.