ليس بالصبر وحده تنتصر الأمم

الرئيسية » خواطر تربوية » ليس بالصبر وحده تنتصر الأمم
Egyptian protesters clash with the army

الاستبداد والانقسام المجتمعي الحاد:

من أشد أنواع الابتلاء التي تصيب الإنسان، هو الابتلاء المجتمعي الذي يصيب الأمة بالاستبداد والبلادة، والانحطاط والسقوط الحضاري، والخروج من دائرة التاريخ، والذي بدوره يؤثّر في جغرافية البلاد كما يحدث دائماً مع الضعيف الذي يخسر أرضه متنازلاً أو بائعاً أو مهزوماً!

وفي تلك الحالات تنقسم الشعوب على نفسها، فطائفة من المنتفعين تلتف حول النظام؛ تأييداً بكل الوسائل التي تخالف وتتجاوز كل القيم المعروفة، وتلك هي الطائفة الأقل.

وطائفة من المقاومين الذين يبذلون أنفسهم فداءً لمبادئهم، وفي سبيل قضية تحرير بلادهم بشقّيها الأساسيين: الإنسان والأرض، وتلك طائفة قليلة كذلك، لكنها أكثر من فئة المنتفعين بكثير.

ثم الطائفة الثالثة وهي الغالبية العظمى من عامة الشعوب، وهي الفئة المنتظرة لمن تكون الغلبة في الصراع الدائر بين المستبد وزبانيته من جهة، والأحرار وأتباعهم من جهة أخرى.

تلك الفئة الضخمة ذاتها منقسمة داخلياً، فمنهم الكاره للنظام المتعاطف مع الأحرار، نظراً لما يدفعونه من ثمن فادح نتيجة الفساد الإداري، أو الخيانة والعمالة التي تدار بها البلاد من فقر وتخلّف ومرض، لكن الخوف يلجمه فيرضى بالسكوت، منتظراً أن يتنزل عليه النصر عنوة، وفئة جاهلة لا تستطيع تمييز الحق من الباطل، فهي منتظرة لمن تكون الغلبة فتتبعها، وفئة لا هي مستفيدة من الباطل، ولا هي تابعة للحق، غير أنها آثرت السلامة الظاهرة، فصفقت للاستبداد خوفاً وطمعاً.

وبهذا التقسيم، نجد أن الأحرار وتابعيهم جملة هم الفئة الأكثر في أي مجتمع، غير أنهم لا يملكون بيدهم القوة الكافية لفرض هيمنة الفكرة التي يحملونها، وغالباً ما يقف قادتهم في مواجهة آلة عسكرية لا تعرف سوى القتل، أو التغييب في السجون، أو التنكيل الذي لا طاقة للبسطاء به، فيلوذون بالصبر والسكون.

وهناك طائفة من أفراد معدودين ليس لهم تابعون، إنما هي فئة مستقلة بذاتها، تسمى بالنخبة، وهم أفراد معدودون يثيرون لغطاً قد يعكر صفو المياه الراكدة، غير أن المسافة التي يضعونها بينهم وبين الناس لا تؤهلهم ليكونوا قادة حقيقيين لحراك شعبي محتمل، والمسافة القريبة بينهم وبين النظام تجعلهم في الحقيقة محسوبين عليه لا ضده، وإن كانوا يظهرون غير ذلك، فلذلك وجودهم عائق على الحركة الثورية لا دافعٌ لها، بل وجودهم يعطي مشروعية للأنظمة، باعتبار أن هناك معارضة ترضى الخارج المراقب.

حقيقة التوكل في رفع البلاء:

في ظل تلك الحالة التي يعيشها الشعب المنتظر للفرج أن يتجلى عليه من السماء، فيرفع عنه بلاء الظلم الواقع عليه والفساد الغارق فيه، تكثر الدعوات التي توجهه للصبر على الظالم حتى يسقط من تلقاء نفسه، بدعوى أنه لم يعد باليد حيلة، وأنه ما عاد لأحد طاقة بالمواجهة، وعلى الصعيد الآخر، تنادي فئة أنه لا خروج من المأزق الحالي إلا ببذل كافة الأسباب التي تجعل الشعب كفئاً لمواجهة الآلة العسكرية، وذلك بالتماس أسباب القوة والمقاومة، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة!

يقول ابن تيمية: الالتفات إلى الأسباب، واعتبارها مؤثرة في المسببات شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع

وبين أولئك وهؤلاء يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "الالتفات إلى الأسباب، واعتبارها مؤثرة في المسببات شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع".

ويقول ابن القيم: "فلا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى، وإن تعطيلها يقدح في نفس التوكّل، وإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً ".

وتلك المعاني يجملها حديث النبي صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"[أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي].

وذلك اختصار المسألة كلها، الكيس: هو الفطنة والحركة وحسن التدبر، تتقصى الحقائق، تجرّب، تأخذ بكل الأسباب، حتى إذا عجزت فوّضت الأمر لله واحتسبت، وحين يشيد الله بذي القرنين يقول سبحانه: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً}[سورة الكهف]، أي أنه لم يتوقف عند عطاء الله له من التمكين في الأسباب والأرزاق، وإنما "أتبع سببا"، أي أنه استكمل عطاء الله بالفعل والجهد والعمل، وتوظيف طاقته المهداة له من رب العالمين.

فعلى قادة الحراك الشعبي أن يتلمسوا أسباب الخلاص عملاً لا قولاً، وحركة لا قعوداً، وبذلاً إلى جانب الصبر والثبات واليقين، قبل كل شيء بمعية الله ونصرته، وكذلك في نهاية المطاف شرط البذل والاحتساب.

متى يركن الناس إلى الصبر؟

الصبر مطلوب على كل المستويات، فالمسلم بين حالتين: إحداهما تستحق الشكر، والأخرى يلزمها الصبر، فالعبادة يلزمها الصبر، والطاعة يلزمها الصبر، والثبات أمام العدو يلزمه الصبر، والبحث عن الوسائل والأسباب التي تمكنه يلزمه الصبر، ومقاومة العدو يلزمها الصبر، واستنفاد الأسباب وانقطاعها يلزمها كذلك الصبر، لكنها في المرحلة الأخيرة، مرحلة انتظار الفرج عند العجز.

العبادة يلزمها الصبر، والطاعة يلزمها الصبر، والثبات أمام العدو يلزمه الصبر، والبحث عن الوسائل والأسباب التي تمكنه يلزمه الصبر، ومقاومة العدو يلزمها الصبر، واستنفاد الأسباب وانقطاعها يلزمها كذلك الصبر

وأختم بقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة البقرة، الآية:153]، فالله يأمرنا أن نستعين بالصبر كعبادة قلبية، والصلاة كعبادة بدنية على أمورنا جميعها، فليس الهدف الصبر في حد ذاته، وإنما الاستعانة به على قضاء الأمور المنوط بنا القيام بها، ومنها الجهاد الأكبر "كلمة حق تقال عند سلطان جائر".

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة مصرية، مهتمة بالشأن الإسلامي العام، حاصلة على بكالوريوس إعلام من جامعة القاهرة، وكاتبة في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية، لها العديد من المؤلفات المنشورة، مثل: المنهاج في الدروس المسجدية للنساء، معالم على طريق التمكين الحضاري، وأبجديات الثورة الحضارية وغيرها.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …