ها هِي غزة التي أنهكتها ثلاث حروب على مدار ست سنوات متواصلة تنهضُ من جديد بأخلاقِ أهلها النبيلة، بمبادرة صغيرة لا يوازي حجمها خرم إبرة في هذا العالم الكبير، «سامح تؤجر» حملة بادر إليها أحد التجار وسط قطاع غزة؛ نظرًا للظروف المريرة التي يمر بها الناس وعدم مقدرتهم على سداد الديون المستحقة عليهم، لتشرق هذه الحملة كنورِ الشمسِ الساطعةِ في قلوبِ الناس ويساهم فيها العشرات من التجار وأصحاب رؤوس الأموال، ميسورو الحال حتى معسورو الحال يُسقطون حقهم رغم حاجتهم له؛ تيسيرًا وتخفيفًا عن الناس.
يُضمد الغزيون جراحَهم النازفة بأيديهم، هنا أبٌ يُرجعُ نصفَ المَهْرِ لزوج ابنته المستقبلي ويتكفلُ هو بكسوتها وتجهيزها على نفقته الخاصة، وطبيبٌ يُخصصُ يومًا أسبوعيًا لعلاج الناس بالمجان، أما بائع غاز الطهي فقد مزّق دفتر الدين بأكمله، وما زالت الحملة مستمرة؛ ابتغاء مرضاة الله وتخفيفًا عن الناس الذين لا يجدون طعام أطفالهم، لم تقف تلك المساهمات الخيرية لمن هم فوق الأرض فحسب، بل طالت من هم تحت الأرض من المدينين في قبورهم، نعم لقد أسقط رجل حقه بمبلغ كبير جدًا من المال كان له على أحد المتوفين.
الحملة وجدت رواجاً كبيرة من أصحاب المحال التجارية والتجار، لتساهم فيها بعض المؤسسات والشركات.
كما خصصت وزارة الأوقاف بغزة خطبة الجمعة الماضية للحديث عن الحملة وفضل التسامح والتسديد عن الناس في هذه الأوقات العصيبة التي يمر بها قطاع غزة.
وأعلنت الوزارة عن البدء بـ"حملات التكافل الكبرى"، داعيةً الأئمة والخطباء، وبالتعاون مع أسر المساجد وأهل الخير كل في مسجده، لإطلاق هذه الحملات على غرار حملات الفجر الكبرى.
وثمّن مدير عام الإدارة العامة للوعظ والإرشاد يوسف فرحات، المبادرات التي قام بها بعض التجار من التخفيف عن المدينين كل حسب استطاعته، داعياً الجميع للمسامحة والعفو حتى يعفو الله عنا يوم القيامة.
من جهته قال الدكتور ماهر السوسي الأستاذ المشارك بكلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية بغزة: "إن المبادرة تجسيد لمبدأ عظيم أقره الإسلام وحضّ عليه، وهو مبدأ "التكافل الاجتماعي" الذي ينص على أن يكون كل فرد في المجتمع مسؤولاً بقدر ما يستطيع عن غيره من الأفراد، وهم جميعاً مسؤولون عنه".
مبدأ التكافل:
وأضاف السوسي في حديث لبصائر: "هذا هو #التكافل الذي أراده الإسلام، تكافل بشقيه المعنوي والمادي، ومبادرة "سامح تؤجر" قد استوعبت هذا المبدأ بشقيه حيث إن الشعور بعوز الآخرين، وإعسارهم، واحتياجهم، هو تكافل معنوي، ثم إسقاط الحقوق عنهم، أو تقديم المساعدة لهم هو تكافل مادي".
وأشار إلى: "ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فرّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كرب من كرب الدنيا والآخرة (رواه مسلم)".
ولفت إلى: "أن مثل هذه التصرفات تظهر أصالة المجتمع الغزي، وهي نقاط مضيئة في تاريخ هذا المجتمع المسلطة عليه الأضواء من كل الاتجاهات، فهو مجتمع حاول أن يعيش حياته رغم أن أعداءه على اختلاف مشاربهم يريدون أن يمنعوا عنه الهواء إن استطاعوا ذلك، ولكن رحمة الله تعالى اقتضت ألا يكون هذا بمقدور أحد".
إسقاط الحقوق:
وأوضح السوسي: "أن إسقاط الحقوق عن الناس لا يكون إلا برضا صاحب الحق واختياره، ولا يجوز إجبار أحد على ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه) (رواه الدارقطني والبيهقي)، ولكن يجوز لنا ترغيب الناس في إسقاط حقوقهم، وليس إجبارهم على ذلك".
ونبه إلى: "ضرورة الحرص على تجنب النفاق والرياء في هذا الأمر، فمن أراد مسامحة الناس وإسقاط حقوقه فالأحسن له ألا يعلن عن ذلك؛ خوفاً من الرياء والسمعة، لما جاء في فضل الصدقة بظهر الغيب في كتاب الله تعالى حيث قال: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:271]، ولكن يحسن الإعلان عن هذا الصنيع إذا قصد المرء أن يقتدي به الآخرون فيفعلوا مثل فعله، والله تعالى أعلم بنيات الناس".
السوسي: من أراد مسامحة الناس وإسقاط حقوقه فالأحسن له ألا يعلن عن ذلك؛ خوفاً من الرياء والسمعة، ولكن يحسن الإعلان عن هذا الصنيع إذا قصد المرء أن يقتدي به الآخرون فيفعلوا مثل فعله
الأجر والثواب:
وحول مكانة مسامحة المستدين في الإسلام، قال الداعية مصطفى أبو توهة: "بقدر ما تكون حاجة الناس، بقدر ما يكون الأجر والثواب، فالناس عيالُ الله، وأحبُ الناس إلى الله أنفعهم لعياله".
وأضاف أبو توهة في حديث لبصائر: "إن أزمات المستدينين تستدعي الرأفة والرحمة من أناس سارت الريحُ بمراكبهم غنىً وشبعاً، وهي رأفةٌ لها براهينها، ورحمةٌ تُعبر عن نفسها، أولاً بالدعاء في ظهر الغيب أن يسُد الله حاجة المحتاجين مشفوعاً بالمشاركة عبر الانتظار في أداء الدين المستحق، كما في قوله تعالى: {فنظرة إلى ميسرة} [البقرة:280]، أو إسقاطاً لبعض الديّن، إذ يقول عزّ وجلّ: {وأن تصدقوا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة:280] وهو الخيارُ الأصعب الذي لا يوفّقُ إليه إلا من رضي الله عنهم، أي التجاوزُ عن المال كله وصولاً إلى درجة الإيثار والتي هي المنتهى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}[الحشر:9]".
وتابع معلقاً على حملة "سامح تؤجر": "لا يخفى علينا ما يمر به كثيرٌ من المواطنين من قلةِ الدخل المترتب على انعدام وسائل الرزق، وبالتالي فإن هذه الحالة الإنسانية تفرضُ وبشكل ملحّ على إخوان لهم في الدين والوطن والإنسانية أن يستروا عوراتهم ويسدوا احتياجاتهم ليكونوا خير خلف لخير سلف الذين قال أحدهم: (اللهم إني أعتذر إليك من كل كبدٍ جائعةٍ ومن كل جسدٍ عارٍ فإني لا أملك إلا ما في بطني ولا أحملُ إلى ما على ظهري)".
وتابع: "ولعل من أبرز سمات المتقين أنهم (ينفقون في السراء والضراء)، ليكون عوض ذلك مغفرة وجنة عرضها السموات والأرض وهي جنة لا يُطار إليها بجناحي فراشة ولكن بجناحي نسر؛ لأنها محفوفة بالمكاره وثمنها غالٍ، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة) (رواه الترمذي)".
وأوضح أبو توهة: "وإذا كان بعض الناس يطرقون أبواب الجنة بأشلائهم استشهاداً في سبيل الله، فإن البعض يزاحمهم بالعطاء والجود والسخاء، ليجتازوا عقبةً كأداء {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} [سورة البلد]".