لقد اقتضت حكمة الله تعالى ولطفه بعباده أن يجعل كتابه العزيز مشتملاً على صنفين من الآيات: (محكمات- هنّ أم الكتاب- وأُخرُ متشابهات)، وأن يكون أصلُ الكتاب ومحورُه قائم بالأساس على (الآيات المحكمات) اللاتي وصفهنَّ بأنهنًّ أم الكتاب، واللاتي تكون معانيها دانية وبمتناول الجميع، لا على (الآيات المتشابهات) التي لا يعلم تأويلهن إلا القلة القليلة من الراسخين في العلم -على اعتبار عدم القول بالوقف اللازم في هذا الموضع- وفي ذلك فائدتان:
الأولى: أن يكون بلوغ الحق، وأن تكون سبل الهداية بمتناول الجميع من العامة والخاصة إن توفر فيهم الصدق، وعدم ربطها بكفاءات علمية كبيرة أو بقدرات عقلية فائقة كما هو الحال للراسخين في العلم.
ثانياً: عصمة أصحاب القدرات العقلية الكبيرة من أن يشطحوا في التفكير والتحليل -الذي تغريهم به إمكانياتهم العقلية- حين يتناولون آيات أو مسائل متشابهة، ليبقَوا بذلك مشدودين إلى أصول ثابتة وأوتاد راسخة يعلمها العامة قبل الخاصة، ألا وهي (الآيات المحكمة).
من هنا فإن تدبر الآيات القرآنية، سيما المتشابهات منها، لا بد أن يقوم على أساس متين أرساه الله، ووفق منهجية قويمة بينها الله، الله تعالى ذاته الذي تقول بأنه ألحَّ عليك أن تتدبر كتابه!
فأما الأساس المتين الذي ينبغي لك أن تنطلق منه في رحلتك المباركة في تدبر القرآن الكريم فهو (عدم وجود أدنى تعارض أو اختلاف بين آيات القرآن الكريم)، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}.(النساء:٨٢) ، وأخالكم هنا قد تنبهتم إلى روعة الربط بين الأمر بالتدبر، والأساس الذي ينبغي أن يقوم عليه هذا التدبر.
وأما المنهجية القويمة التي تفهم -ضمناً- من الآية السابقة ومن غيرها، فهي عدم الإيغال في تدبر آية في كتاب الله -سيما المتشابهات- بمعزل عن باقي الآيات -سيما أمها من الآيات المحكمات- بل لا بد لك وأنت تمارس عملية التدبر في آية معينة أن تستدعي نظيراتها ومتعلقاتها من الآيات الأخريات، وإلا فإنك ستكون عرضة لنتائج متعارضة مع ما استقرَّ في الآيات المحكمات، وهو أمر غاية في الخطورة من حيث:
١. عدم سلامة النتيجة التي أفضت إليها عملية التدبر.
٢. الطعن - ضمناً - بمصدرية القرآن وحقيقة نسبته إلى الله؛ إذ إن وجود الاختلاف - كما بين الله - دليل على كونه من عند غير الله.
******
وعلى العموم فإن إنزال القرآن الكريم على هذا النحو من الإبداع والحكمة واللطف والعناية، لا يعني بحال انتفاء وجود الزيغ والضلال والانحراف لدى البعض، وهو أمر يتوقف -بطبيعة الحال- على المنهجية التي يتعامل وفقها الناس مع كتاب الله:
- فإما أن تتِّبع المحكم من الآيات وتردَّ إليها ما أشكل من الآيات المتشابهات، وهو الصواب.
- وإما أن تتّبع المتشابه من الآيات، بل وتتتبّعها - كما يفعل البعض- دون التقيد أو حتى الالتفات إلى الآيات المحكمات.
وهي - أي المنهجية المتبعة - متوقفة على شيء ما وقر في القلب: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}.(آل عمران: ٧)
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}. (آل عمران: ٨)