من نافل القول، أن الأمة في أزمة، وفي حقيقة الأمر، إنها في هذه الأزمة منذ أكثر من مائتي عام، عندما دبّ الضعف في الدولة الإسلامية الأم، وكانت في حينها الدولة العثمانية، وبدأ الاستعمار في مد أذرعه ومخالبه إلى أطراف الأمة، قبل أن ينقض على قلبها، في القرن التاسع عشر.
وللمفارقة، فإنه تاريخيًّا، كان العالم الإسلامي هو آخر معقل في العالم القديم، والعالم الثالث، استطاعت بريطانيا وفرنسا والقوى الاستعمارية الأخرى مد نفوذها فيه، بالرغم أن هذه القوى كانت قد احتلت مناطق شاسعة تحت سيطرة أمم كبرى، مثل الصين والهند.
فما الذي حدث؟!
ببساطة، ظل العالم الإسلامي صامدًا؛ لتمسكه بعقيدته، وإدراكه لهويته، وأنه أمة لا تنهزم، فإما أن تعيش بكرامة، أو تأخذ عدوّها معها إلى الآخرة ملقيةً إياه في الجحيم، ولكنها لا تموت أبدًا، بل هي باقية خالدة ببقاء وخلود دينها ورسالتها في هذه الدنيا.
ثم كان تخلّي الأمة عن هويتها ودينها الذي هو أساس هذه الهوية، فصارت الأمة هي أكبر المهزومين في العالم اليوم، بينما باقي الأمم التي لحقها وباء الاستعمار، صارت الآن في صدارة المشهد، مثل: الصين والهند!
ظل العالم الإسلامي صامدًا؛ لتمسكه بعقيدته، وإدراكه لهويته، وأنه أمة لا تنهزم، فإما أن تعيش بكرامة، أو تأخذ عدوّها معها إلى الآخرة ملقيةً إياه في الجحيم، لكنها لما تخلت عما سبق، صارت أكبر المهزومين في العالم
وهذا الحديث ليس من مرسل القول أو قديمه، حيث إنه مفتتح لحديث آخر يطول حول التحديات التي تواجهها الأمة، والتي ينبغي عليها التصدي لها، والقضاء على مسبباتها، لو أرادت العودة إلى الحياة مرة أخرى.
وإن من بين أهم هذه التحديات، تحدي التشرذم والاقتتال الداخلي.
وهذا الأمر كان في الماضي ظاهرةً استثنائية، إلا أنه في الوقت الحالي، صار الأمر هو الأصل والأساس في العلاقات بين الدول والجماعات بين ظهراني عالمنا "العربي والإسلامي".
ولا يمكن فصل هذا الذي يجري عن الاستعمار كذلك، ولكنه لا يبرر أن ينخرط فيها الملايين من أبناء الأمة؛ ليكونوا أداة لوقود هذه الحروب والصراعات.
وتتفرع مسؤولية الاستعمار في ذلك إلى ثلاثة أذرع رئيسة، أوّلها وأهمّها بطبيعة الحال، هزيمة الدولة العثمانية، وتفكيكها كإطار جامع وشامل للأمة بكل المكونات الدينية والعرقية التي كانت تضمها، بما في ذلك مسيحيو المشرق، الذين تعترف الكثير من كنائسهم بأن أحوالهم خلال وقت وجود الدولة الإسلامية الجامعة، كان أفضل من الوضع في ظل حكم بعض الأنظمة القومية.
الأمر الثاني في هذا الصدد، هو هذه الأنظمة القومية التي دخلت مع بعضها البعض -ومع ما كان يُسمَّى بـ"الرجعيّة"- صراعات عديدة، كان من أهم نتائجها، ضياع فلسطين، مثلما أدت صراعات ملوك الطوائف ودولهم في المغرب العربي، سواء البينية، أو مع الدولة الإسلامية الأم في المشرق، إلى ضياع الأندلس، قبل ما يزيد على 500 عام.
ثم نصل إلى العامل الثالث الذي غرسه الاستعمار فينا في العصر الحديث، وهو ظاهرة الجماعات الغامضة التي تنسب نفسها للدين، بينما هي مدسوسة في الأصل؛ لنقض أية محاولات لتسويق المشروع الإسلامي سياسيًّا وإعلاميًّا واجتماعيًّا، وعلى مختلف المستويات.
ثم زادت هذه الجماعات الطين ليس بلَّة فحسب، بل فيضانات وانهيارات بفعل عدد من الممارسات التي لن نقول لا نجد لها أثرًا في الممارسة النبوية أو القرآن الكريم، بل إن الأدلة الشرعية كلها تنفيها، مثل تصدير نمط انتماء لا يتعلق حتى بالأمة أو المشروع الإسلامي، أو حتى الوطنيات والقوميات الضيقة، وهو نمط الانتماء بل الانحياز "العقدي" للجماعات على حساب الانتماء للأمة، وليس للوطن فحسب.
فصارت "الجماعة" أو "التنظيم" أو "الحركة"، هي الانتماء الأسمى، وفق غرس شيطاني استغل فكرة "الطائفة المنصورة"، و"الفرقة الناجية" الموجودة في السُّنَّة النبوية بشكل خاطئ، وفيه تدليس كبير بالمفهوم الشرعي، وبالتالي صار الخروج عن هذه الجماعة –التي هي في الأصل اجتهاد لأصحابها في تقديم صورة معينة للمشروع الإسلامي– هو خروج عن الدين، أي ردة عنه، وبالتالي، استحلال قتله .
صارت "الجماعة" أو "التنظيم" أو "الحركة"، هي الانتماء الأسمى، وفق غرس شيطاني استغل فكرة "الطائفة المنصورة"، و"الفرقة الناجية" الموجودة في السُّنَّة النبوية بشكل خاطئ، وفيه تدليس كبير بالمفهوم الشرعي
وهو صلب مهم للغاية في أزمات الأمة الحالية، نجده في فتنة الجماعات "الإسلامية السُّنِّيَّة" التي تقتل بعضها البعض، ولا تحارب الصهاينة، أو فتنة السُّنِّي/ الشيعي، التي فرضتها صراعات أنظمة إقليمية في المنطقة ومصالح دولية؛ من أجل استمرار مصانع السلاح في تغذية الجيوش العربية والإسلامية بقطع منزوعة الفاعلية، نظير مئات المليارات من الدولارات، ومن أجل ضمان استمرار اقتتال العرب والمسلمين، وبالتالي، ضمان -كذلك- عدم نجاح أية أصوات تدعو لإعادة توحيد الأمة وتحقيق نهضتها، وتبوء مكانتها اللائقة بين الأمم.
وهو هدف معروف، ولكن الأنظمة وعموم المسلمين -للأسف- يسمحون به!
ثم إننا نجد بعض الأوساط المحسوبة حتى على الأوساط الإسلامية الصحويّة، والوسطيّة الطابع، ومن بينها بعض الذين كانوا في الإطار الظاهر منتمين لجماعة "الإخوان المسلمون"، وتحت وطأة ثارات معينة يعملون على ترويج نموذج لجماعات عُنْفية ضالة، تقول إنها إسلامية وجهادية؛ لاستمرار النار في المحرقة الكبرى المستمرة منذ سنوات طويلة بين ظهرانينا، وترويج هذا النموذج على أنه ضمن الحركات الإسلامية، يعبِّر عن جانب من المشروع الإسلامي، ولكن له اجتهاده الخاص!
بطبيعة الحال، لا يمكن بأي معيار موضوعي أو عقلي تصوُّر قدرة الجماعات الإسلامية التي تقدم نموذجًا للإسلام كما هو، أو بأقرب صورة للإسلام والمشروع الحضاري، على "تسويق" مشروع الحكم الإسلامي بهذه الصورة؛ لأن المشروع الإسلامي الآن، والذي كان يضم في الماضي القريب قامات مثل "رشيد الرضا"، و"جمال الدين الأفغاني"، و"محمد عبده"، و"حسن البنا"، و"المودودي"، و"محمد الغزالي"، أصبح الآن يضم منفلتين وأشخاصًا لم يتلقوا في حياتهم أيَّ علم شرعي يسمح لهم بقول إن هذا من الإسلام، وهذا ليس منه.
وأخطر ما جرى في السنوات الأخيرة، هو أن بعض هذه الأمور، تخرج من داخل الدوائر الوسطية، التي كانت تقدم النموذج الأقرب للإسلام فيما تقوله عن المشروع الإسلامي، وعندما نرى بعض الأوساط الأكاديمية تضم تنظيمات غامضة النشأة في الأصل –من دون أي إشارة إلى أدلة فساد عقيدتها وفقهها– مثل "داعش"، إلى منظومة "الحركات الإسلامية"، فعندها لنا أن نتوقع أن ترفض كل المجتمعات العربية والإسلامية –حتى لو اختفت الضغوط والتشويشات الإعلامية للأنظمة والحكومات– أي نمط حكم فيه هؤلاء.
وبالتالي، فإنه -بالبديهة- لا يمكن القيام بأي جهد دعوي فعّال في المجتمعات غير المسلمة أصلاً!
إن أساس معالجة مشكلات الأمة هو العودة بالمسلمين -ولاسيما الطليعة الحركية منهم، والتي لا تلزم نفسها بأي انتماء تنظيمي أو هوية جماعاتية، وتنظر للحركة الإسلامية على أنها أداة لخدمة العقيدة، وليست عقيدة في حد ذاتها- إلى السياق الذي كان قد بدأه البنا والغزالي والمودودي فيما يتعلق بقضية تحويل الحركات الإسلامية الطليعية إلى وسيلة للتقريب بين المسلمين، من خلال التعاون لا التناحر.
لابد من النظر إلى الحركات الإسلامية على أنها أداة لخدمة العقيدة وليست عقيدة في حد ذاتها، ولابد أن تكون وسيلة للتقريب بين المسلمين وتحقيق التعاون بدلاً من التناحر
وهذا الجهد الذي بدأ في الأربعينيات، كان يحظى بدعم الأزهر الشريف، وحكومات دول عربية وإسلامية، وينبغي استئنافه، وصرف النظر مؤقتًا عن الصراع مع الأنظمة والحكومات القائمة؛ لأنه صراع يطول، ولا ينبغي أن يكون في صدارة المشهد كأولوية للإسلاميين أو المسلمين، أو أيًّا كان المسمى؛ لأنه لا يمكن أن تصدِّر نموذج الإسلام في الحكم لمجتمعات لا ترى في هذا النموذج سوى صدامات مع الحكومات القائمة، حتى لو كانت هذه الصدامات على حق، ولكن في النهاية، أنت لا تحقق مصلحة، بل تفسد الأمور، وهنا يقول الإسلام: إن الأوْلَى تنحية هذا جانبًا، مع الاحتفاظ بقناعاتنا العَقَدية فيما يخص قضية التصدي للفساد والاستبداد، والإصلاح والتغيير وفق قواعد العمران السياسي والاجتماعي التي وضعها الله تعالى لنا في قرآنه، ورسختها الممارسة النبوية.
وإن انضمام الحركة الإسلامية الصحوية لأية جهود في هذا الصدد هو أولوية أولى من وجهة نظر الكاتب.
إن تجاوز هذه المرحلة بحاجة إلى إرادة قوية؛ لأن الفترة الماضية رسَّخت قناعات وثارات من الصعب تجاوزها، حتى بمفهوم القواعد الإنسانية والنفسيات البشرية المتعارف عليها، وبجانب حروب الأنظمة على الفكرة الإسلامية.
ولكن، ربما كانت هذه المعركة هي واجب الوقت، والذي ينبغي القيام به حتى ولو من خلال جهد غير رسمي، بعيد عن الأطر المؤسسية الدينية التابعة لحكومات، إلى حين، سوف يكون ذلك هامًّا في إعادة تعريف ما هو "إسلامي"، وما هو "غير إسلامي"، وبالتالي تشكيل جبهة مواجهة قوية ضد فتنة التكفير والصراعات البينية للمسلمين!