كنَّا على موعد مع محور مهم من محاور المؤتمر حول دور العلماء في استرداد المقدسات، إنه الدور الذي يستفسر عنه العلماء وطلاب العلم، ويسأل عنه الخواصّ والعوام، فلا يعقل ولا يصح أن يكون دور العلماء الذين يوقِّعون عن ربِّ العِزَّة هامشياً في قضية الأمَّة . لا يليق بهم أن يتخلفوا عن توجيه بوصلة الحكام والمحكومين تجاه قبلتهم الأولى لفك وثاقها وتطهيرها من دنس المحتلين وتحرير أرض فلسطين المباركة لينعم المسلمين جميعاً باسترداد ذلك المعلم السيادي الذي يعيدهم إلى سالف عهدهم.. أمَّةً قوية عزيزةً مُهابة.
جاء انعقاد المؤتمر في شهر جمادى الأول ليوافق أحداثاً عظيمة في تاريخ أمتنا كان منها فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح وذلك في 20جمادى الأول عام 857هـ، ووافق أيضاً ذكرى استشهاد العالم المجاهد عمر المختار رحمه الله في الرابع من شهر جمادى الأول من العام 1350هـ. وقد جسَّدت تلك الأحداث نموذجين للعلماء العاملين، ففتح مدينة القسطنطينية ارتبط بالعالم الجليل آق شمس الدين الذي كان لصيقاً بالسلطان محمد الفاتح، فكان المُوجِّه والمُربّي والمؤدب والأستاذ والمدرس. كان المحرِّك له لفتح القسطنطينية حتى لُقِّب بالفاتح المعنوي لها، فلا عجب أن يكون الشيخ آق شمس الدين أول من يلقي خطبة للجمعة في مسجد آيا صوفيا بعد الفتح العظيم للقسطنطينية.
إنه نموذج العالم الذي وجد أرضاً خصبة للبذار، فاعتنى بغرسها أيَّما اعتناء، ورعاه أيَّما رعاية، حتى أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، يعجب الزُّرَّاع ليغيظ بهم الكفار.
إنه نموذج العالم الرباني الذي يحكي التاريخ بأحرف من نور أن السلطان محمد الفاتح دخل على خيمة الشيخ شمس الدين يوم الفتح، فرآه ساجدًا لله، وعمامته متدحرجة مِن على رأسه، وشعر رأسه الأبيض يتدلى على الأرض، ثم إنه رأى شيخه يقوم من سجدته والدموع تنحدر على خديه، فقد كان يناجي ربَّه ويدعوه بإنزال النصر ويسأله الفتح القريب.
ولما عاد السلطان عقب ذلك إلى مقر قيادته، إذ بالجنود العثمانيين قد أحدثوا ثغرات بأسوار المدينة المحاصرة وبدؤوا بالتدفق منها إلى داخل القسطنطينية، ففرح السلطان بذلك، وقال: ليس فرحي لفتح المدينة، إنما فرحي بوجود مثل هذا الرجل في زمني، فنحن أحوج ما نكون إلى الدعاء وإلى صدق اللجوء إلى الله تعالى.
إنه صنف العلماء الذين يجدون قائداً يستجيب لنداء الحق لحماية بيضة الإسلام فيمحضون له النُّصح والتوجيه بما يسدده ويُقوِّم اعوجاجه.
أما الصنف الآخر من العلماء فمثاله الشهيد عمر المختار الذي لم يجد بداً من أن يباشر بنفسه مقارعة البغي والظلم وحمل راية الجهاد عالية والجهر بكلمة الحق حتى آخر رمق، وبذل الروح رخيصة في سبيل الله ثمناً لموقف عزٍّ تشهده الأمَّة وتقتفي أثره الأجيال.
إنه الأسد الهصور الذي زأر في وجه الجيش الإيطالي الفاشستي المحتل لأرضه، فأقضَّ مضاجعه، وكان شوكةً في حلقه، وحرَّض الشعب الليبي للثورة ضده، فكان حاملاً للمشعل الذي ازداد وهجه بدمائه الزكية، وبقيت كلماته تتردد على مسامع الأجيال: "كن عزيزاً وإياك أن تنحنى مهما كان الأمر ضرورياً فربما لا تأتيك الفرصة كى ترفع رأسك مرة أخرى". وهو الذي قال قولة صدقٍ خلَّدها التاريخ: "نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت".
وبما أن المؤتمر يخاطب علماء الأمة حول واجبهم نحو الأقصى، فممَّا يجدر ذكره الإشارة لما ورد في القرآن الكريم لمثل هذين النموذجين من العلماء، مع أمرٍ ملفت للنظر وهو أن النموذجين يحملان في طياتهما وصف "الأقصى".. فقد جاء النموذج الأول في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [سورة القصص-آية 20].
إنه "رجل"، ولفظة الرجل لها دلالاتها الموحية في كتاب الله كقوله تعالى: {من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [سورة الأحزاب-آية23] وقوله: {رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} [سورة النور-آية 37]. وفيها دلالة على الأهلية وتحمّل المسؤولية، ويؤكد ذلك وصفه بالسعي، وأنه صاحب همَّة تجعله يأتي من "أقصى المدينة"، فالبعد لا يثنيه عن إنجاز مهمته، والآية تخبر عن صاحب علمٍ ودراية وتَقَصٍّ لأحداثٍ خطيرة تَمَسُّ نبياً من أولي العزم من الرسل، فكان ذلك الرجل نعم النصير والعضد والموجه والناصح له ليكتمل إشعاع النور حتى تنجلي عتمة الظلمة وينعم الخلق ببركات الهداية.
إنه نموذج العالم الذي سخَّر علمه إسناداً وتقويةً لقيادةٍ مؤمنةٍ مخلصةٍ تحمل مشروع الخير وتحتاج إلى بطانة خير تسدد بوصلتها لتحقيق أهدافها المرسومة لها.
أما النموذج الثاني فقد ورد ذكره في قوله تعالى: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين} [سورة يس-آية 20].
إنه أيضاً "رجل" وهو أيضاً صاحب همَّة عالية تجعله "يسعى" لإنجاز مهمته، وتجعله يتجشم المصاعب ليقطع المسافات الطويلة فيأتي من "أقصى المدينة"، وهو المؤمن العارف بالله، العالم بحقه، الداعي إلى سبيل الرشاد، المنافح عن رسل الهداية {وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون(22). أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون(23) إني إذا لفي ضلال مبين(24)}.
إنه يتصدى بنفسه لأهل الباطل رغم الخطر الماحق المحدق به والذي أفضى إلى قتله وارتقائه شهيداً ثمناً لصدحه بكلمة الحق ومواجهته المباشرة لرموز الباطل.
وليس بعيداً عنّا نماذج حية تحاكي هذين النموذجين، فالشيخ الشهيد عز الدين القسام تَحرَّك بنفسه ليسدَّ الثغرة بعد أن ضاق الأمر عليه في بلده سورية، فانتقل معلماً مربياً واعظاً مجاهداً في فلسطين، وختم حياته بشهادة خلَّدت ذكره عبر التاريخ، وما يزال ملهماً بجهاده للأجيال، وما يزال اسمه يزلزل أوصال المحتلين الغاصبين. ومثله الشيخ حسن البنا والشيخ الشهيد أحمد ياسين والشيخ يوسف السوركجي والشيخ جمال سليم والشيخ نزار ريان، وكلهم لهم باع في العلم الشرعي وولجوا باب الشهادة من محاريب المساجد ومنابرها.
أما النموذج الأول فلعلَّ في علماء الأمَّة الكثير منه كالشيخ العلامة يوسف القرضاوي -حفظه الله- الذي نذر على نفسه أن يقف في صف مقاومة المحتل الغاصب، فكان صوتاً داعماً مؤيداً لها وناصحاً موجهاً لقيادتها، ومعه على ذلك الدرب علماء واتحادات وهيئات وجبهات علمائية تساند الجهاد والرباط على أرض فلسطين، ويسدون ثغرةً مهمةً لتجييش الأمة لنصرة مسجدها الأقصى وقدسها وأرضها المباركة بما يضمن تكامل الأدوار بين النموذجين وصولاً إلى يوم التحرير الموعود بإذنه تعالى.