طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

الرئيسية » كتاب ومؤلف » طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
طبائع

لا يوجد ما هو أشد وطأة على الأمة من أن يستعبد بعضها بعضاً، ويستبد البعض بمصيرها وقراراتها ومستقبلها، فعندها هانت على الآخرين، وفقد شعبها كرامتهم، وفقدت المقدسات هيبتها والأراضي حرمتها، وباتت تستباح من قبل أعدائها ليلاً ونهاراً، وبات المستبدون مستعدين للتخلي عن ثوابتها، والتآمر على من يشاركونهم في الدين، واللغة، والتاريخ، والنسب؛ حفاظاً على المنصب، واستمراراً للسلطة التي يريدون أن يتمسكوا بها بأي ثمن.

ليس الاستبداد محصوراً بفرد أو حزب فحسب، بل بات ثقافة في عصرنا، فكل يرجو أن يتخلص من الاستبداد بفرضه على من هو واقع تحت سلطته ، حتى لو كان رباً لأسرة، أو مسؤولاً عن موظفين أو أكثر!

وهكذا تنتشر الثقافة، حتى يصبح الشعب مستعبداً بالفطرة، وإن ذاق الحرية في لحظة ما، فإنه سيبحث عمن يستعبده؛ لأنه تشرّب هذه الثقافة على مر السنين!

مع الكتاب:

يعتبر الكتاب مرجعاً هاماً في الكشف عن طبيعة الاستبداد وفلسفته، ومنطق المستبدين في التعامل مع القضايا المختلفة، وخوفهم من الوعي والحرية وكل ما يرفع الغشاوة عن الشعوب، ويبصّرها بحقوقها وعلاقتها بمن يحكمهم ويدير شؤونهم.

وقد تطرق الكواكبي للعديد من المواضيع في كتابه، منها:

-مفهوم الاستبداد:

يرى الكواكبي أن سبب انحطاط الأمة هو الاستبداد السياسي، وأن دواءه يكون بالشورى الدستورية التي تشترك فيها الأمة . ويوضح أن الاستبداد هو: تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة، فالحكومات تتصرف كيفما تشاء دون خوف من حساب أو عقاب محققين.

ويرى أن الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسؤولية، فيكون المنفذون مسؤولين لدى المشرعين، وهؤلاء مسؤولون لدى الأمة صاحب الشأن كله. كما أن أشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان الرجيم هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية!

-الاستبداد والدين:

يبين الكواكبي أن الإسلام قد أحكم قواعد الحرية السياسية، ونزع كل سلطة دينية أو تقليدية تتحكم في النفوس أو في الأجسام، ووضع شريحة صالحة لكل زمان ومكان، وأظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الراشدين، كما أن القرآن الكريم مشحون بتعاليم إماتة الاستبداد، وإحياء العدل والتساوي.

وقد فنّد الكواكبي دعاوي البعض في طاعة المستبدين، وساق على ذلك العديد من النصوص الشرعية؛ لبيان بطلان ادعائهم، ومخالفته لفلسفة الشريعة وروحها.

ويرى أن من صور الاستبداد في الدين اتخاذه وسيلة لتفريق الكلمة، وتقسيم الأمة شيعاً، وتحيير المسلمين بالتفريع والتوسيع والتشديد والتشويش، وإدخال ما ليس منه فيه.

من صور الاستبداد في الدين اتخاذه وسيلة لتفريق الكلمة، وتقسيم الأمة شيعاً، وتحيير المسلمين بالتفريع والتوسيع والتشديد والتشويش، وإدخال ما ليس منه فيه

-الاستبداد والعلم:

ويرى أن المستبد إذا شاهد بعض العلماء النوابغ قد نالوا حرمة بين العوام، فإنه لا يعدم وسيلة لاستخدامهم في تأييد أمره ومجاراة هواه مقابل شيء من التعظيم، أو بضع لقيمات يرسلها لهم.

والمستبد يخاف من العلماء العاملين الراشدين المرشدين، فهو لا يحب أن يرى وجه عالم عاقل يفوق عليه فكراً، كما أن المستبد يحارب العلماء بالعوام؛ لأنهم يخافون منه لجهلهم وغباوتهم، ولو ارتفع الجهل وتنور العقل لزال الخوف من الشعب.

ويضيف أن: "المستبد يخاف من نقمة رعيته أكثر من خوفهم بأسه، وكلما زاد ظلمه وتعسفه زاد خوفه من رعيته، بل حتى من حاشيته ومن هواجسه وخيالاته !"

-الاستبداد والمجد:

يبين الكواكبي أن المجد لا ينال إلا بنوع من البذل في سبيل الله وسبيل الجماعة، وهو محصور في زمن الاستبداد بمقاومة الظلم على حسب الإمكان.

ويفرّق بين المجد والتمجّد، حيث إن التمجّد هو التقرب من المستبد؛ ليحرق بها شرف المساواة في الإنسانية مع باقي الشعب، وفي الوقت نفسه فإن المستبدّ يتخذ المتمجّدين وسيلة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حب الوطن، أو تحصيل منافع عامة، وغيرها من الأمور التي تضلل الشعب.

ويرى أن: "الحكومة المستبدة تكون مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم، إلى الشرطي والفراش وكنّاس الشوارع "!

-الاستبداد والمال:

المستبد يسعى لمص دماء حياة شعبه بغصب أموالهم، وتقصير أعمارهم باستخدامهم سخرة في أعمالهم، أو بغصب ثمرات أتعابهم، فهو يتفنن في إيقاع الظلم عليهم.

وهو يرى أن: "حفظ المال في عهد الاستبداد أصعب من كسبه "، مما يضطر الناس لإخفاء نعمة الله عليهم، والتظاهر بالفقر والفاقة؛ حتى لا تسلب أموالهم بأي حجة يضعها المستبد وأعوانه.

-الاستبداد والأخلاق:

يؤثّر الاستبداد على أخلاق الإنسان وميوله، فيجعله يكفر بنعم مولاه؛ لأنه لم يملكها حق الملك ليحمد الله عليها حق الحمد، ويجعله حاقداً على قومه؛ لأنهم عون لبلاء الاستبداد عليه، وفاقداً حب وطنه؛ لأنه غير آمن على الاستقرار فيه ويود لو انتقل منه.

وهو يسلب الراحة الفكرية، ويستولي على العقول، ويشوش عليها الحقائق والبديهيات كما يهوى، فينقادون له كالأعمى. ومن آثار الاستبداد أن يرغم حتى الأخيار من الناس على إلفة الرياء والنفاق، ويجعل الأشرار آمنين من كل تبعة ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح.

من آثار الاستبداد أن يرغم حتى الأخيار من الناس على إلفة الرياء والنفاق، ويجعل الأشرار آمنين من كل تبعة ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح

-الاستبداد والتربية:

الاستبداد مفسد للأخلاق في الدين، ويحول العبادات عادات لا تفيد في تطهير النفوس شيئاً، ولا تنهى عن فحشاء ولا منكر.

والاستبداد هو الذي يتولى تربية الناس، ويضطرهم إلى استباحة الكذب والتحيل، والخداع والنفاق والتذلل ونبذ الجد وترك العمل، مما يجعل الآباء يحجمون عن تربيتهم تربية فاضلة؛ لأنها ستذهب عبثاً تحت أرجل تربية الاستبداد.

-الاستبداد والترقّي:

الاستبداد قد يدفع الأمة إلى عدم طلب الترقي، بحيث لو دفعت إلى الرفعة لأبت، وإذا ألزمت بالحرية تشقى وتتعب، والإسلام الذي يعتمد على فهم القرآن، ويقدر قيمة العقل هو أقوى مؤثر لتهذيب الأخلاق، وأكبر معين على تحمل مشاق الحياة، وأجلّ مثبت على المبادئ الشريفة.

-الاستبداد والتخلص منه:

ويضع الكواكبي قواعد حول السعي لرفع الاستبداد وهي:

1- الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية؛ لأنها قد تقاوم المستبد بسوق مستبد آخر، فتستبدل مرضاً بمرض.

2- الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين والتدرج، من خلال ترقية الإدراك والإحساس للأمة، وهذا لا يتأتّى إلا بالتعليم والتحميس، والاستبداد لا ينبغي أن يُقاوم بالعنف؛ كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصداً .

3- يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد، فمعرفة الغاية شرط طبيعي للإقدام على كل عمل، ولابد من تعيين الخطة والمطلب موافقاً للأغلبية أو للكل، ولابد من إشهارها بين الكافة والسعي في إقناعهم.

مع المؤلف:

ولد عبد الرحمن الكواكبي في مدينة حلب سنة "1271ه"، الموافق "1855م" في ظل الخلافة العثمانية، كان يتقن اللغتين التركية والفارسية بالإضافة إلى العربية، تولى العديد من الوظائف في الدولة آنذاك، وكان مولعاً بأهمية الصحافة والإعلام في الإصلاح ونشر المبادئ.

توفي في القاهرة في ربيع الأول سنة "1320ه"، الموافق "1902م"، وقد نعاه الإمام "محمد رشيد رضا" -صاحب تفسير "المنار"- بالكلمة التالية: "أصيب الشرق بفقد رجل عظيم من رجال الإصلاح الإسلامي، وعالم عامل من علماء العمران، وحكيم من حكماء علم الاجتماع البشري، ألا وهو السائح الشهير، والرحّالة الخبير، السيد الشيخ عبد الرحمن الكواكبي".

بطاقة الكتاب:

العنوان: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
المؤلف: عبد الرحمن الكواكبي
مكان النشر: عمّان
دار النشر: دار النفائس
عدد الصفحات: 193

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب فلسطيني، متخصص في الشريعة الإسلامية والسياسة، مهتم بالإعلام والتربية والتعليم.

شاهد أيضاً

تراث القدس.. سلوة النفس

يعد هذا الكتاب القيّم تراثًا مقدسيًّا فلسطينيًّا مبسّطًا - إلى حد ما - ومجمّعًا بطريقة …