لا شك بأن السلطان عبد الحميد الثاني آخر السلاطين الفعليين للدولة العثمانية يعتبر أكثر الشخصيات جدلاً على مستوى جميع الخلفاء السابقين على الإطلاق؛ فبين من يراه أضاع الدولة الإسلامية وأنه ديكتاتور استأثر بكل أشكال السلطة وجمعها بين يديه أو أنه شخصية دموية متطرفة حكمت الشعب بالحديد والنار حتى أُطلق عليه لقب: السلطان الأحمر، بل إن منهم من تطرف في خياله وأوهامه حتى يدّعي أن السلطان عبد الحميد هو الذي ساهم بتأسيس الدولة الصهيونية في أرض فلسطين، كل هؤلاء في جهة وآخرون يرون أن السلطان هو الوريث الحقيقي لما يسمى بالخليفة، وأنه استطاع المدّ بعمر دولة عندما أمسك زمام السلطة فيها كانت هاوية مترنحة، بل كانت في الحقيقة هيكلًا لدولة فقط، هيكل خاوٍ من كل معاني الدولة والاستقلال الحقيقي؛ إلا أن عبد الحميد استطاع أن يعيد لها مجدها وقوتها وأن تعود لبريقها وليستمر في حكمها بضعاً وثلاثين عاماً.
يعتبر الكثير من المؤرخين السلطان عبد الحميد هو أقوى سلاطين آل عثمان، لما تعرض له من هجمات شرسة سواء أكانت من داخل الدولة أو من خارجها ووقف أمامها بصمود، كما ويرون بأنه أكثر خليفة امتاز بالدهاء السياسي الذي أعجز مناوئيه عقوداً، بل إنه قد حقق من الإنجازات في ظل دولة هزيلة وضعيفة ما تعجز عنه الامبراطوريات، وقد وقف عبد الحميد وحده كشخص سداً منيعاً لكل المحاولات التي كانت مثل (تسونامي) تريد تغيير هوية هذه الأمة وتشتيتها ، ولم يستطع الغرب أن ينحي شخصيته رسمياً ودولياً ومن خلال المحافل أو الاتفاقيات العالمية لما لها من مهابة وجدية كانت تجعل من حكام أوروبا يرتعدون خوفا من ذكر اسم السلطان، وهو ما جعلهم يجتمعون للإطاحة به نهاية الأمر.
يعتبر الكثير من المؤرخين السلطان عبد الحميد هو أقوى سلاطين آل عثمان، لما تعرض له من هجمات شرسة سواء أكانت من داخل الدولة أو من خارجها ووقف أمامها بصمود
جوانب من شخصيته:
عُرف عنه مزاولة الرياضة وركوب الخيل والمحافظة على العبادات والشعائر الإسلامية والبعد عن المسكرات والميل إلى العزلة وكان حذراً كتوماً جداً، قليل الكلام كثير الإصغاء، من الصعب غشه، وكان محافظا على التقاليد الإسلامية الشرقية العثمانية التركية، وكان من مؤيدي المحافظة عليها، وكان يتقن استخدام السيف، وإصابة الهدف بالمسدس، وكان مهتماً بالسياسية العالمية ويتابع الأخبار عن موقع بلاده منها بعناية فائقة ودقة نادرة.
سعى إلى طرح شعار الجامعة الإسلامية، وجعلها سياسة عليا لدولة الخلافة ، فعمل على تدعيم أواصر الأخوة بين مسلمي الصين والهند وإفريقيا، ورأى في ذلك الشعار وسيلة لتوحيد الصفوف حوله وحول دولته في الداخل والخارج؛ فاستعان بمختلف الرجال والدعاة والوسائل لتحقيق غرضه، فأقام الكليات والمدارس، وربط أجزاء الدولة بـ30 ألف كيلومتر من البرق والهاتف، وبنى غواصة وقامت تجارب الغواصة من ماله الخاص وفي ذلك الوقت لم تكن إنجلترا تملك سفينة تسير تحت الماء، واهتم بتسليح الجيش. إلا أن أعظم مشروعاته الحضارية هو سكة حديد الحجاز لتيسير الحج على المسلمين ، بعدما نشر عبد الحميد الثاني بيانًا على المسلمين يدعوهم فيه للتبرع، وافتتح القائمة بمبلغ كبير؛ فتدافع المسلمون من الهند والصين وبقية العالم على التبرع، باعتبار أن هذا المشروع هو مشروع المسلمين أجمعين، بحيث يستعاض بهذا المشروع عن طريق القوافل الذي كان يستغرق السفر به أربعين يومًا، وانخفضت المدة بالخط الحديدي إلى أربعة أيام.وفي عهد السلطان عبد الحميد وصل أول قطار يربط المدن الأوروبية ببعضها وانطلق من مدينة فيينا إلى مدينة إسطنبول العاصمة وهو "قطار الشرق السريع". وأبدى السلطان اهتماماً بالغاً بتوسيع إنشاء شبكة من الخطوط الحديدية بهدف ربط أجزاء الدولة المترامية الأطراف، واستخدامها عسكرياً، حتى أن طول الخطوط الحديدية في عهده بلغ 5883كم، وكان أهم إنجاز في عهده هو سكة حديد الحجاز التي بدأ إنشاؤها في عام 1900م وتصل بين مدينة دمشق في الشام حتى المدينة المنورة في الحجاز، وكان لهذا المشروع عدة أهداف أولها خدمة الحجاج المسلمين، والأهداف الأخرى تتنوع بين عسكرية وسياسية، وتم الانتهاء منه في آب 1908م وكان هذا الشهر الذي وصل فيه أول قطار إلى المدينة المنورة، وكان من المقرر أن تصل الخطوط حتى مدينة مكة المكرمة إلا أنها توقفت بسبب أن الشريف حسين بن علي قام بعرقلة المشروع خوفاً على سلطانه. وعند قيام "الثورة العربية الكبرى" قام "الثوار" بتخريب السكة بقيادة ابنه وبمعاونة الاستخبارات البريطانية، ولا زالت السكة معطلة.
يُذكر أن من المشاريع الكبيرة التي لم تكتمل هو مشروع مد خط سكة حديد في اليمن إلا أن السلطان قد خلع قبل تنفيذ المشروع.
أما التعليم فإن عبد الحميد الثاني أبرز السلاطين الذين تطور التعليم في عهدهم ، فقد أنشأ المدارس المتوسطة والعليا والمعاهد الفنية لتخريج الشباب العثماني. واهتم اهتمامًا بالغًا بالمدرسة التي أنشئت عام 1859م على عهد السلطان عبد المجيد الأول، فأعاد تنظيمها وفق خطة علمية، وتحديثها بمناهج دراسية جديدة، وفتح أبوابها للطلاب القائمين في العاصمة، والوافدين من مختلف الأقاليم العثمانية.
وأنشأ السلطان بدءًا من عام 1878م، المدرسة السلطانية للشؤون المالية، ومدرسة الحقوق التي تخرج القضاة وتخرج الطلاب للوظائف الإدارية، ومدرسة الفنون الجميلة، ومدرسة التجارة، ومدرسة الهندسة المدنية، ومدرسة الطب البيطري، ومدرسة الشرطة، ومدرسة الجمارك، كما أنشأ مدرسة طب جديدة في عام 1898م، ومدرسة الزراعة، ومدرسة التجارة البحرية، ومدرسة اللغات، ومدرسة الأحراج والمعادن، ومدرسة المعوقين، ودار المعلمات ومدرسة الفنون النسوية. وافتتح متحفي الآثار القديمة والمتحف العسكري، ومكتبتي يلدز وبايزيد، وثانوية حيدر باشا.
وقام السلطان عبد الحميد الثاني بتطوير "مدرسة إسطنبول الكبرى"، التي أنشئت في عهد السلطان محمد الفاتح وأصبحت جامعة اسطنبول، وضمّت في أول أمرها أربع كليّات هي: العلوم الدينية، والعلوم الرياضية، والعلوم الطبيعية، والعلوم الأدبية، وعُدّت مدرستا الحقوق والطب كليتين ملحقتين بالجامعة. وتطلبت المدارس الملكية، أو المدنية، بدورها إنشاء عدد من دور المعلمين لتخريج معلمين أكْفاء يتولون التدريس فيها.
ومن أهم مراحل حكم السلطان عبد الحميد والتي لا تخفى على أحد بل أصبحت مقترنة باسمه شخصياً ألا وهي قضية فلسطين حين وقف سداً منيعاً أمام الصهيونية الذين كانوا يريدون أن يقتطعوا جزءاً من هذه الأرض مقابل إقامة الدولة المزعومة وفي هذا قال رحمه الله: "انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع فإني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين، فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية، ولقد جاهد شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يوما فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من دولة الخلافة وهذا أمر لا يكون، إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة".
من أهم مراحل حكم السلطان عبد الحميد والتي لا تخفى على أحد بل أصبحت مقترنة باسمه شخصياً ألا وهي قضية فلسطين حين وقف سداً منيعاً أمام الصهيونية الذين كانوا يريدون أن يقتطعوا جزءاً من هذه الأرض مقابل إقامة الدولة المزعومة
ومن أهم ما سعى لتحقيقه هو الوحدة الإسلامية قال رحمه الله: "يجب تقوية روابطنا ببقية المسلمين في كل مكان، يجب أن نقترب من بعضنا البعض أكثر وأكثر، فلا أمل في المستقبل إلا بهذه الوحدة، ووقتها لم يحن بعد، لكنه سيأتي اليوم الذي يتحد فيه كل المؤمنين وينهضون نهضة واحدة ويقومون قومة رجل واحد يحطمون رقبة الكفار".
ومما ساهم في تعميق السخط الغربي تجاهه تكوينه لواحد من أفضل أجهزة المخابرات والاستخبارات، حيث أصبح التجسس على الدولة العثمانية في عهده واحدة من أصعب المهام على أجهزة التجسس الغربية. وبالمقابل كانت الأجهزة العثمانية تحقق النجاح تلو الآخر حتى يقال إن رسائل المبعوثين الدبلوماسيين الأوروبيين في إسطنبول إلى بلدانهم كانت تصل إلى مكتب السلطان قبل وصولها إلى وجهتها الأصلية.
قالوا في السلطان عبد الحميد:
"يرحم الله عبد الحميد، لم يكن في مستواه وزراء ولا أعوان ولا شعب، لقد سبق زمانه، وكان في كفايته ودرايته وسياسته وبعد نظره، بحيث استطاع وحده بدهائه وتصرفه مع الدول تأجيل انقراض الدولة ثلث قرن من الزمن، ولو وجد الأعوان الأكفياء والأمة التي تفهم عنه لترك للدولة بناء من الطراز الأول" سعيد الأفغاني.
"أتعرف يا جمال ما هي مصيبتنا؟ قمنا بالانقلاب ونحن آلة في يد الصهيونية، ولم نكن ندري، كنا أغبياء". أنور "من كبار المتآمرين ضد السلطان عبد الحميد"
"لو وُزن مع أربعة من نوابغ رجال العصر، لرجحهم ذكاءً ودهاءً وسياسةً. وأعظم ما أدهشني ما أعدَّ من خفي الوسائل، وأقصى العوامل، كي لا تتفق أوروبا على عمل خطير في الممالك العثمانية". جمال الدين الأفغاني
"كان متواضعاً ورزيناً إلى درجة حيرتني شخصياً، متمسك بدينه غاية التمسك، يرعى العلماء و"رجال الدين". إنني أستطيع القول بكل ثقة :إن العثمانيين إذا استمروا بالسير في الطريق الذي رسمه هذا السلطان، فإنهم سيسترجعون مجدهم السابق، وقوتهم السابقة، وسيصلون إلى مستوى الدول الأوربية في مجال الثقافة والاقتصاد في مدة قصيرة". البروفسور أرمينيوس فامبري "مستشرق مجري".