عندما يصيرُ السلطانُ كالقطّ

الرئيسية » خواطر تربوية » عندما يصيرُ السلطانُ كالقطّ
4105_Green-throne-in-a-wilderness-room

يومًا بعد يوم تتكشف سوءات علماء السوء المطبّلين للملوك والسلاطين، وتتساقط من أعين الناس قامات كانوا يتوهمونها عالية، ويستغرب كثيرون: أليس هؤلاء هم العلماء الذين كانوا يصدّعون رؤوسنا بالحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أليسوا هم من رووا لنا حديث (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)؟!

لا شكّ أن هؤلاء العلماء المتساقطين على أبواب السلاطين يعرفون من الأحاديث والأقوال في هذا الموضوع أكثر بكثير ممّا يعرفه عامّة الناس ومتوسطي مثقفيهم، والسؤال الذي يدعو للاستغراب: ألم يكن علمهم هذا جديرًا بأن يمنعهم من هذا السلوك؟

وهنا يحضر في أذهاننا نموذج (إبليس) الذي لم يمنعه علمه من عصيان الله تعالى ومعاندته ومكابرته والإصرار على ذلك، حتى قيل في الحكمة:
لو كان للعلم من دون التُّقَى شرفٌ = لكان أشرف خلق الله إبليسُ

فالعلم وحده لم يردعه عن المعصية، والعلم وحده ليس كافيًا لردع الإنسان عن الوقوع في حمأة العصيان، وسبب مناقضة سلوك كثير من الناس لمقتضيات إيمانهم وعلمهم هو أن هناك عدة عوامل تتصارع ليدفع كلٌّ منها السلوك باتجاهه، فالعصبياتُ والأهواءُ والعواطف كالحبّ والكره والحرص والخوف كلها تنافس العقل حول توجيه السلوك.

سبب مناقضة سلوك كثير من الناس لمقتضيات إيمانهم وعلمهم هو أن هناك عدة عوامل تتصارع ليدفع كلٌّ منها السلوك باتجاهه، فالعصبياتُ والأهواءُ والعواطف كالحبّ والكره والحرص والخوف كلها تنافس العقل حول توجيه السلوك

ولو نظرنا إلى هذه النماذج من العلماء المتساقطين لوجدنا أنّ علمهم بما توعد الله به الظالمين وأعوانهم، وما وعد به أهل الحق يدفعهم باتجاه قول كلمة الحق، بينما: أهواؤهم وحبُّهم للدنيا، وحرصهم على مناصبهم، وخوفهم من خسارة مكاسبهم، كل ذلك يدفعهم للتسحيج لأهل الباطل، وهذه العوامل المتضادة موجودة في نفس كل عالم، بل في نفس كل واحد منا، والذي يقرر ما هو العامل الذي سيكون أقوى تأثيرًا فيتجه السلوك بالاتجاه الذي يدفع إليه هو الشخص ذاته.

أما كيف يكون ذلك، فإن التاريخ يروي حكايات لعل فيها جوابًا على هذا السؤال، منها الحكاية التالية لسلطان العلماء الشيخ (عز الدين بن عبد السلام):

فقد حضر الشيخ في يوم عيدٍ استعراضًا عسكريًّا لسلطان مصر، وعساكره مصطفون بين يديه، وأمراؤه يقبّلون الأرض أمامه، فالتفت الشيخُ إلى السلطانِ وناداه: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك ألم أبوئ لك ملك مصر ثمَّ تبيح الخمور؟

نعم ناداه باسمه مجرَّدًا، ناداه بأعلى صوته، والعساكر واقفون بين يديه، وهو في عزّ أبّهته وجبروته.

فقال السلطان: هل جرى هذا؟

فقال الشيخ: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة!

لقد كان للعلماء هيبة، فرضوها بأنفسهم عندما ترفّعوا عن متاع الدنيا، وكان الشيخ قد حدثت معه حادثة قبلها مع نفس السلطان عندما كان قاضيًا فحاول السلطان التدخل في عمله، فغضب الشيخ، وحمل حوائجه على حمار، وأركب عائلته على حمار آخر، ومشى خلفهم خارجًا من القاهرة قاصدًا نحو الشَّام، نعم لقد كانت كل دنيا الشيخ وحوائجه لا تبلغ إلا حمولةَ حمار واحد، وما كاد الشيخ يغادر القاهرة حتى لحقه غالب أهلها، لا سيما أهل التأثير فيها من العلماء والصلحاء والتجار، فبلغ السلطانُ الخبرَ، وقيل له متى راح الشيخ ذهب ملكك، فركب السلطان بنفسه ولحقه واسترضاه وطيب قلبه، فالسلطان كان يدرك أنه أما رجل لا يباع ولا يشترى، ومن هنا كان أصل هيبته أمامه.

نعود لحادثة يوم الاستعراض، فقد حاول السلطان تبرير وجود تلك الحانة أمام الشيخ فقال: يا سيدي، هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي.

فغضب الشيخ وقال له: أنت من الذين يقولون: (إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أُمَّةٍ)؟؟

فأمر السلطان بإِغلاق تلك الحانة.

العبرة في القصة هي فيما يلي:

لقد سأل أحد التلاميذِ الشيخَ، فقال: يا سيدي، أما خِفْتَه؟

انظروا كيف عمل الإمام (العز بن عبد السلام) على تقوية عامل (العلم) ليكون أقوى تأثيرًا، ويجعل السلوك مندفعًا باتجاه إنكار المنكر وعدم السكوت عليه.

قال الشيخ لتلميذه: والله يا بني استحضرت هيبة الله تعالى فصار السلطان قُدَّامي كـ (القِطِّ).

نعم، لقد استحضر هيبة الله تعالى، فتضاءلت هيبة السلطان، وصغرت صورته، ففي حين كان الذين تغيب عن أذهانهم هيبة الله يرونه (أسدًا) مخيفًا، كان الشيخ لاستحضاره هيبة الله تعالى يراه كـ (القطّ) الأليف.

لقد عمل الشيخ على دعم دافع (العلم) بدوافع عاطفية إيجابية، كـ (الخوف من الله تعالى) و(حبّ ما عند الله)، فتضاءلت قوة العواطف السلبية كـ (الخوف من السلطان)، و(الحرص على الدنيا)، فاتجه السلوك نحو الجرأة في إنكار المنكر.

إنّ العالم الذي يكتفي بالعلم المجرّد من العواطف، يعرّض نفسه للوقوع في حبائل الشيطان

إنّ العالم الذي يكتفي بالعلم المجرّد من العواطف، يعرّض نفسه للوقوع في حبائل الشيطان، ولذلك كان العلم الجامد الجافّ الخالي من الروحانيات والعواطف، والذي يتصف به عدد من العلماء الذين ينسبون أنفسهم لمدرسة السلف زورًا غير كافٍ لردعهم عن التطبيل للباطل، وكانوا هم أكثر المعرّضين للوقوع في تلك الحبائل.

ورحم الله الإمام البنّا، فإني أحسبه قد كان ينظر بنور لله حين قال: "ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف".
فبدون تلك العواطف الإيجابية الملتهبة سيكون العلم حجّةً على صاحبه، لا حُجَّةً له.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
باحث فلسطيني. حاصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة، وشهادة ماجستير في الفقه وأصوله.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …