كنت أقرأ قول حجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله: "طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله".
فلا تبلغني ظلال معانيه ودقائق فهمه، وأحسبه مقتصراً على العلم الشرعي، حتى فتح الله بفضله ورحمته فهماً له.
إن أي علم لا يوصل لله تعالى يجب وضعه في قفص الاتهام، فكيف إذا كان حجاباً دون رب العالمين ؟! ومن يحصر الوصول لله تعالى في ركعات معدودة وآيات منثورة وتسبيحات معقودة، فقد حَجَّر واسعاً، كيف ولله في كل شيء آية، وفي كل علم فتح، وإنما على أبصارنا غشاوة، ودون قلوبنا ونوره سبحانه حُجُب. وما ذلك إلا لقلة سعينا في فقه مغزى الحياة ومفهوم العبادة، التي لأجلها خلقنا، وعنها نسأل، وفي غير ركابها نفني أعمارنا، وبانطماس فهم حقيقة العلم الذي تضع الملائكة لطالبه أجنحتها رضاً بما يصنع.ولا والله! ليس كل علم طلبه عبادة ولا سبيله جَنّة كما شاع في الأفهام، العلم العبادة شيء، وعبادة العلم شيء آخر تماماً. الأول جنة، والثاني شهوة. الأول سكينة وطمأنينة ونماء، والثاني لهاث عطشان لا يرتوي مهما شرب. الأول يعمل في عتمة القيام وظل الخبيئات، والثاني لا يزدهر إلا في طبول المحافل وتحت بريق الأضواء. الأول نور يُنفَخ والثاني مسائل تُنسَخ. الأول علم لعمل وعمل بعمل، والثاني زوبعة في فنجان وجعجعة بلا طحين وثرثرة بلا طائل.
ليس كل علم طلبه عبادة ولا سبيله جَنّة كما شاع في الأفهام، العلم العبادة شيء، وعبادة العلم شيء آخر تماماً
ذلك أن النفع ليس لصيقاً بالعلم من حيث هو تصنيف قائم في المعارف الإنسانية، فقد استعاذ المصطفى صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع، وجمع بينه وبين الدعاء الذي لا يُسمَع، والقلب الذي لا يخَشع، والنفس التي لا تشبع من الاستكثار من شهواتها، كأنما هو أولى درجات تلك المهلكات: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا) (رواه مسلم). وهذا حق، فالعلم يُفْنِي أعماراً في طلبه، ويستهلك فكراً في تحصيله، ويشغل القلب في تقليبه. فأنّى يتساوى علم يقدَح زِناد الفكر وشرارة البصيرة وقريحة الفهم، وذاك الذي ينفخ صاحبه كالطبل الأجوف، طنان رنان في مبناه، هزيل سقيم خاوٍ في معناه؟!
والحق أن "العلم شيئان: إما نَقْلٌ مُصَدَّق، وإما بَحثُ مُحقَّق، وما سوى ذلك فهذيان"، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. وما أكثر الهذيان ككثرة الزبد، فهل غيّر ذلك من حقيقة كونه زبداً يذهب جُفاء؟ العلم الحق يزهر في قلب حامله خشية ويجعل الله لصاحبه نوراً يدلّ عليه. يحكي عبد الله بن سلام استدلاله الفطري على صدق المصطفى صلى الله عليه وسلم من نور وجهه، فيقول : "قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ" [رواه ابن ماجة]. العلم الحق لابد أن يوصلك لله: بعمارة النفس بناء للفكر وتهذيباً للوجدان، وبعمارة الأرض نفعاً للغير ونشر لبذور الخير، وتحذيراً من مزالق الشر. وما لا يؤدي لأيٍّ من هذه فليس من هذا المقام في شيء.
العلم الحق لابد أن يوصلك لله: بعمارة النفس بناء للفكر وتهذيباً للوجدان، وبعمارة الأرض نفعاً للغير ونشر لبذور الخير، وتحذيراً من مزالق الشر. وما لا يؤدي لأيٍّ من هذه فليس من هذا المقام في شيء
إذن لماذا أقرأ؟
الثقافة التي نقصدها في هذا السياق هي إذن: "مجموع العلوم والآداب والفنون وكافة المعارف التي يُطلب العلم بها، لطلب حكمة وتبين حق، أو دفع جهل وإيقاظ وعي، وفي كلتا الحالتين يترتب على الطلب أو الدفع تلقائياً عمل وحركة إذا صحت المقاصد والمنهجية". هذه الأهداف الأربعة تجمع كل الفوائد التي يمكن أن ترجوها من مسيرتك الثقافية: طلب حكمة وتبين حق، أو دفع جهل وإيقاظ وعي .
في ضوء هذا التعريف قد تُطِل تساؤلات من قَبيل: هل قراءات المرء ينبغي أن تكون كلها سامية راقية نبيلة نافعة؟ فماذا عما تتداوله المطابع اليوم مما خف نفعه وغلا سعره؟ وكيف تتسع مداركنا إذا كنا لا نخرج خارج دائرة المألوف لدينا؟ وماذا عن الروايات والمغامرات والألغاز وسائر هذه النوعيات من الكتابة؟ وألا يمكن أن نقرأ للمتعة؟ وماذا عن مقولة "أيَّ كتابٍ تقرأ تستفد"؟
والجواب -بتوفيق الله تعالى- يتلخص في معايير أساسية للحكم، على مستويين: مستوى المادة، ومستوى القارئ. ونعرض لكل منهما بالتفصيل في مقالة تالية بإذن الله.