إذا كان بعضهم يصرّ على إدخال الظنيات بفرعيها -ظني الثبوت وظني الدلالة- في مسائل #العقيدة؛ فإنه يلزمه القول بجواز الاجتهاد في مسائل الاعتقاد، إذ إن مظنة #الاجتهاد تكمن في ظنيات المسائل لا قطعياتها، وحينئذ لا فرق في الاجتهاد بين الأحكام والعقائد، وما يجري على الاجتهاد في مسائل الأحكام الظنية من قواعد في الحكم على القائل بأحد الأقوال المحتملة لهذا الحكم أو ذاك؛ فمثله تماماً ينطبق على القائل بأحد الأقوال المحتملة في مسائل العقيدة الظنية.
وفي مقابل هذا؛ فإن إنكار قطعيات المسائل، أو القول بقول لا تدل عليه البتة؛ يُخرج صاحب هذا القول من دائرة الإسلام، سواء كانت هذه المسائل عقدية أو فقهية.
وبهذا؛ تجتمع قطعيات الأحكام والعقائد على نسق واحد، وتتوافق ظنيات الأحكام والعقائد على أمر واحد، ويظهر أن التفريق بين الأحكام والعقائد -من هذه الناحية- سبب من أسباب التفرق بين المسلمين.
لم يقف الأمر في التفريق بين مسائل الأحكام ومسائل الاعتقاد عند مجرد الاصطلاح والتعريف، وإنما تعداه إلى انحرافات فكرية أدت إلى التفريق بين الحكم على المخطئ في الاجتهاد المتعلق بالعقائد، فهو إما ضال أو مبتدع أو فاسق أو كافر، وبين الحكم على المخطئ في الاجتهاد المتعلق بالأحكام، فهو مأجور لا ضير عليه ولا مؤاخذة.
لم يقف الأمر في التفريق بين مسائل الأحكام ومسائل الاعتقاد عند مجرد الاصطلاح والتعريف، وإنما تعداه إلى انحرافات فكرية أدت إلى التفريق بين الحكم على المخطئ في الاجتهاد المتعلق بالعقائد، فهو إما ضال أو مبتدع أو فاسق أو كافر، وبين الحكم على المخطئ في الاجتهاد المتعلق بالأحكام، فهو مأجور لا ضير عليه ولا مؤاخذة
ولو تأمل القائل بهذا التفريق المبتدع؛ أن كل حكم من الأحكام الشرعية متضمن الاعتقاد بهذا الحكم -وجوباً أو حرمةً، ندباً أو كراهة، أو إباحة- لوقفَ حائراً لا يجد لقوله ما يتوافق مع منطق الشريعة.. كيف ولو نظر في أن مسائل الاعتقاد تتضمن حكماً شرعياً في وجوب الاعتقاد بهذه المسألة أو حرمته، وإن لم يكن هذا حكماً شرعياً؛ فماذا يكون إذن؟!
لنجلي بعض الأمر؛ فلنتوقف عند حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لَمّا رجع من الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي؛ لم يُرِدْ منا ذلك. فذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف واحدا منهم. (متفق عليه)
إن الذي يطرق أسماع الصحابة هنا أمرٌ نبويٌّ بأن "لا يصلينّ أحد العصر إلا في بني قريظة" فكيف تعامل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا الأمر؟ انقسموا في فهمه إلى فئتين؛ فئة فهمت الأمر على ظاهره من غير التفات إلى المغزى منه، وهو الحض على الإسراع، والفئة الثانية فهمت أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد الإسراع في المسير لا ترك الصلاة إلى حين الوصول إلى بني قريظة ولو ترتب على ذلك أن يفوت وقتها، فهم رأوا في ظاهر النص مع دنو خروج الوقت مخالفة لقوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً}، فجمعوا بين النصين، ورأوا في النص القرآني ما يقيد الأمر النبوي، وهذا - فيما يظهر لي - هو القول الأقرب للصواب.
لكنْ.. النص النبوي هنا ظني الدلالة، بمعنى أنه يحتمل أحد القولين اللذين قال بواحد منهما فئة من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن هنا استنبط بعض العلماء قاعدة (كل مجتهد مصيب)، ولكن الحديث لا يساعد على إطلاقها، وغاية ما في الأمر أن النبي عليه الصلاة والسلام عذر الفريقين جميعاً، وليس في عذره لهما تصويب لرأييهما معاً، وإنما هو تصويبٌ لبذلهما الجهد في فهم النص، وحرصهما على تطبيقه، أضف إلى ذلك أنه -عليه الصلاة والسلام- لم ير في ترجيح كفة أحد القولين مصلحة شرعية، فاكتفى بإعذارهما وعدم تعنيفهما فحسب.
ومع أن الصلاة ركن من أركان الإسلام، وفي تأخيرها عن وقتها مواقعة لإحدى الكبائر؛ إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم عذر من قال بتأخيرها عن وقتها متأولاً قولاً دل عليه ظاهر النص بحِدَته، لأن النص يحتمله، وما طرأ عليه الاحتمال؛ اختلفت فيه الأفهام لا محالة.
مع أن الصلاة ركن من أركان الإسلام، وفي تأخيرها عن وقتها مواقعة لإحدى الكبائر؛ إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم عذر من قال بتأخيرها عن وقتها متأولاً قولاً دل عليه ظاهر النص بحِدَته، لأن النص يحتمله
قال ابن حجر في "فتح الباري": "فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد، فيستفاد منه عدم تأثيمه".
وقال: "استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحداً من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لعنّف من أثم".
هذا النموذج من التعامل مع الاجتهاد في النصوص الشرعية يقصره كثير من الناس على مسائل الأحكام دون مسائل الاعتقاد، لماذا؟ لا أعلم سبباً إلا التعصب المقيت الذي أُلبس ثوب الشرعية، وإلا فإن النص هو النص، سواء كان في العقيدة أو في الأحكام، إنْ كان ظنياً في دلالته؛ ساغ الاجتهاد فيه بما لا يخرج عن دلالاته المتعددة.
إن النص هو النص، سواء كان في العقيدة أو في الأحكام، إنْ كان ظنياً في دلالته؛ ساغ الاجتهاد فيه بما لا يخرج عن دلالاته المتعددة
ترجم شمس الدين الذهبي في كتابه الفذ "سير أعلام النبلاء" للإمام تاج الدين الكندي رحمه الله تعالى، وأورد في ترجمته قول القفطي فيه: "وكان ليّناً في الرواية، معجباً بنفسه فيما يذكره ويرويه، وإذا نوظر جبه بالقبيح، ولم يكن موفق القلم، رأيت له أشياء باردة، واشتهر عنه أنه لم يكن صحيح العقيدة".
استفز هذا الكلام الإمام الذهبي رحمه الله؛ فعلّق عليه قائلاً: "ما علمنا إلا خيرا، وكان يحب الله ورسوله وأهل الخير، وشاهدت له فتيا في القرآن تدل على خير وتقدير جيد، لكنها تخالف طريقة أبي الحسن (يعني الأشعري) فلعل القفطي قصد أنه حنبلي العقد، وهذا شيء قد سمج القول فيه، فكل من قصد الحق من هذه الأمة فالله يغفر له، أعاذنا الله من الهوى والنفس".
أصاب الذهبي كبد الحقيقة.. فانظر كيف أن التعصب جعل إماماً كالقفطي يرمي إماماً مثله كالكندي بأبشع التهم لمجرد أنه خالفه في مسائل (عقدية) تقبل الأخذ والرد؟!
حقاً إن هذا شيء قد سمج القول فيه.. ورحم الله الإمام ابن تيمية الذي خاض خصومات طويلة مع المخالفين له في مسائل العقيدة، ثم هو في نهاية الأمر استقر على ضرورة الإعذار من غير تفريق بين المسائل الخبرية (الاعتقاد) والمسائل العملية (الأحكام)، وقال في المخالفين له في ظنيات المسائل العقدية: "وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغَه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد بكفر ولا بفسق ولا معصية" (مجموع الفتاوى: 3/229).
وأضاف: "وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعمّ الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية".
وبهذا الفقه الدقيق؛ يتبين موضع الاجتهاد في مسائل الاعتقاد الظنية، وأنه فرع عن أصل الاجتهاد في النصوص الظنية التي تقبل أكثر من احتمال واحد، وبالتالي فإن كل قائل بأحد الاحتمالات مأجور معذور.