يظلم الإنسان نفسه حين يوقعها في شرَك الكبر والغرور، ويرى فيها الحق المطلق الذي لا يقبل الأخذ أو الرد.. ينظر إلى الآخرين من علٍ، ويكاد أنفُه الشامخ يحجب عن عينيه رؤية الحق الذي يملكونه، إلا أن الحق له نور لا تحجبه أستار الكبر المتهالكة، ونوره هو الحجة البالغة والمحجة الدامغة التي لا يملك رائيها إلا التسليم بأنها الحق الذي لا ينبغي أن يكون التسليم إلا إليه.
ولكن؛ ابتليت الدعوة الإسلامية بأناس عرفوا الحق فحادوا عنه، مختارين الانتصار لأنفسهم، والدفاع عن متبنياتهم، لا يصدّهم عن ذلك معرفتهم بحقيقة نفوسهم وأن أصلها نطفة، ولا يردعُهم عنه إدراكهم حقيقة هذه الدنيا الزائفة، وأنها لا تعدو ممراً إلى دار القرار.
عجبٌ عجب من بعض الأشخاص -أو الجماعات- الذين يفتخرون بأنهم لم يغيّروا ولم يبدلوا، وأنهم ثابتون على آرائهم التي نشؤوا عليها مذ عرفوا الانتماء إلى الدعوة الإسلامية، وكأن آراءهم هذه هي الوحي الذي نزل على كل واحد منهم، وكأن الحيد عن أحد هذه الآراء ينقض وحدة الوحي المتكاملة التي لا تقبل التجزيء والانفكاك.
يجهد البعض في إثبات أنه لم يتراجع عن آرائه، ويجهد آخرون في إنكار أقوالهم القديمة خشية أن يُقال: إنهم تراجعوا، ويسترسل نفر ثالث في التهوين مما نسب إليهم من تراجعات إلى درجة تجعل السامع يقول: تراجعوا أم لا؟! والحق كل الحق أن لا عيب في أن نقول: (أخطأنا وتراجعنا ونستغفر الله.. وندعو كل من عرف عنا هذا الخطأ أن لا ينسبه إلينا، وأن يدَعه كما ودَعناه).
الحق كل الحق أن لا عيب في أن نقول: (أخطأنا وتراجعنا ونستغفر الله.. وندعو كل من عرف عنا هذا الخطأ أن لا ينسبه إلينا، وأن يدَعه كما ودَعناه)
وإنك إنْ أوقفت هذا أو ذاك على خطئه، وحاصرته من كل جهة؛ فإنه يقول "إنْ كنتُ (قد) أخطأت فإنني متراجع عن خطئي"، فلماذا هذا التكبر؟ ولماذا هذه (القدقدة) الشيطانية؟ أنفسك أعز عليك من الحق؟ قُلها صريحة ولا تخف: "أخطأت وأرجع عن خطئي"، فكل إنسان يخطئ، ولا يعيبك أن تقول "إنني إنسان"!
أتظن أن إصرارك على خطئك، أو هروبك من الاعتراف به؛ يجعلك كبيراً في أعين العقلاء، ويزيد من تقديرهم لعلمك "الغزير"، وكلامك الذي لا يخالطه خطل أو زلل؟! أنت بذلك واهم، فخطؤك الجليّ لا ينطلي إلا على الجهال، فهنيئاً لك بحبهم، ويا لخسارتك أن سقطت من عين الله!
أتظن أن إصرارك على خطئك، أو هروبك من الاعتراف به؛ يجعلك كبيراً في أعين العقلاء، ويزيد من تقديرهم لعلمك "الغزير"، وكلامك الذي لا يخالطه خطل أو زلل؟ أنت بذلك واهم!
تتضاعف الحسرة على هؤلاء إذا كانوا ينتسبون إلى العلم والعلماء، ويرون أنفسهم من طائفة (المسمومة لحومهم)، و(ورثة الأنبياء).. والنبوة والأنبياء، والعلم والعلماء؛ بريئون من عنجهيتهم وإصرارهم على خطئهم، حتى ولو هشوا بعصا موسى، وامتشقوا فأس إبراهيم، ولبسوا بردة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
العلماء إذا ذكرتهم فإنما تذكر أهل الخشية الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم، وإذا حضرت الدنيا وملذاتها؛ صمّوا أذانهم، وغضوا أبصارهم، وأشاحوا بوجوههم، وفروا عنها مدبرين..
والذي يخشى الله فإنه يخشى أن يغضبه بالإصرار على الخطأ، والذي يستحضر فناء الدنيا فإنه يحتقر نفسه التي هي جزء يسير من هذه الفانية، فإذا ما تجلّت أمامه الحقائق، وبانت لناظريه الحجج، فإنه يسارع إليها معترفاً بخطئه فيما مضى.. وهو مأجور على الحالين.
تعجبني كثيراً هنا صراحة الإمام الحافظ أبي معمر الهذلي (ت 236) الذي كان شديد التمسك بالسنة، حتى إنه كان يقول - وعجباً لما قال -: "لو تكلمت بغلتي لقالت: إنها سُنّية".. هذا الإمام كان يرى أن القول بخلق القرآن كفر، فعندما امتُحن أجابهم بما يريدون من أن القرآن مخلوق، ولما خرج من ساحة الامتحان حراً طليقاً، سئل: ماذا حصل معك؟ فقال: "كفرنا وخرجنا" (السير: 11/70).
يقول الإمام الذهبي في موضع آخر من السير: "لا حرج على من أجاب في المحنة (محنة خلق القرآن)، بل ولا على من أُكره على صريح الكفر؛ عملاً بالآية، وهذا هو الحق".. ومع أنه لا حرج، فإن هذا الإمام بلغ مبلغاً بعيداً من الصراحة والاعتراف بما يراه لا خطأً فحسب وإنما كفراً.. فما كان إلا أن قال: "كفرنا وخرجنا"..
ونحن اليوم نطلب من جماعتنا أن يقولوا: (أخطأنا وتراجعنا) لا (كفرنا وخرجنا).. ولكنهم يأبون إلا أن يكون لسانهم حالهم: "أصبنا ولا يعرف الخطأ إلينا طريقاً".
فإلى الله المشتكى..