حين نتحدث عن المهمة الحضارية للمسلم، تلك التي حدّدها الخالق سبحانه وتعالى في الآية الكريمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، فإننا نعني بذلك الشهادة التي هي الحضور لا الغياب، فلا يشهد الغائب على الحاضر، والأمة حتى اليوم ما زالت غائبة، ليس الغياب الجسدي فقط، وإنما الغياب الحضاري ، فلم تعد تلك الأمة التي تشعُّ بنور العلم والعدالة والرحمة على العالم، بل صارت هي نفسها عالة على الآخر، وعبئاً على الفكرة التي تحملها، وليس للخروج من ذلك التدني والغياب إلا نفس السبيل الذي اتخذه الأنبياء من قبل، وهو سبيل التربية والتدريب والتعليم، وإعداد مناهج مستقاة ليس من الماضي، وإنّما من الأصل الذي يراعي روح العصر ومتطلباته، قراءة جديدة للقرآن الذي أنزل؛ ليوازن الاحتياج الإنساني، ويملأه في كل زمان ومكان، بل ويسبق احتياجات عصره ليكون سابقاً دائماً بخطوات ليظل هو النسق المتكامل لأي حضارة أخرى.
والتربية هي تلك الكلمة السحرية التي تتحكم في خصائص أي مجتمع، وتوجهه صعوداً أو هبوطاً، سلباً أو إيجاباً ، ولكي تقيم أية أمة، فيكفيك أن تبحث في مناهجها التربوية التي يتلقاها النشء والشباب في كافة المراحل التعليمية، ولكي تضع خطة مستقبلية قصيرة، أو طويلة الأمد لتغيير ثقافة مجتمع ما، فما عليك سوى أن تستعين بمناهج تربوية وتعليمية تتناسب وتخدم الهدف الذي وضعته، وما هي إلا عدة سنوات لتحصل على "النوعيّة" التي تريد، وتحقق الهدف المنشود.
لكي تقيم أية أمة، فيكفيك أن تبحث في مناهجها التربوية التي يتلقاها النشء والشباب في كافة المراحل التعليمية، ولكي تضع خطة مستقبلية قصيرة، أو طويلة الأمد لتغيير ثقافة مجتمع ما، فما عليك سوى أن تستعين بمناهج تربوية وتعليمية تتناسب وتخدم الهدف الذي وضعته
معنى التربية اصطلاحاً: تعددت التعريفات للمعنى الاصطلاحي لكلمة التربية، لكنها تدور في مجملها بين اكتساب خبرات وصفات مجتمعية تعبّر عن ثقافة المجتمع المحيط، وهي نمو ونقل للخبرات بين جيل وجيل، وهي المسؤولية المنوطة بالكبار تجاه الصغار تربية شاملة تشمل جميع جوانب الإنسان الروحية والنفسية والجسدية، وهي كذلك مسؤولية المجتمع تجاه أفراده، وعرّفت "اليونسكو" التربية على أنها: مجموع عمليات الحياة الاجتماعية، والتي من خلالها يتعلم الأشخاص والمجموعات في مجتمعاتهم الوطنية والدولية كلّ قدراتهم، واتجاهاتهم، ومعارفهم، وتوجهاتهم الشخصية.
المناهج التربوية العربية هل تكفي لبناء الشخصية المفتقدة في مجتمعاتنا؟
أصيبت مجتمعاتنا العربية والإسلامية منذ عدة قرون بحالة من الانغلاق الكامل على نفسها، مع توقف عملية التجديد اللازمة لنمو أي مجتمع وتطوره، فعانت من أزمات الجهل والتخلف والفساد، وفقدت الشخصية العربية رونقها نتيجة توقف التجديد والاستنباط والاجتهاد، فمرض جسد الأمة، وفسدت من داخلها، وصارت بذلك نهبة لكل فكر وارد مع الانبهار بالعقلية الغربية التي استطاعت أن تخطو خطوات واسعة، بناءً على العلوم الحضارية الإسلامية، والمستقاة من التراث الأندلسي، وما أضافت إليه بعد الثورة الفرنسية.
وصارت الشخصية العربية "مؤهلة" نفسياً لعملية التلقي دون وعي ، بل ودخلت في حالة من الصراع بين الذات وبين العلوم التربوية الواردة، لتنتصر الأخيرة دون انتقاء مناسب، لتسقط الثقافة البالية والمحرفة في مقابل الحداثة.
غير أن الأوروبي الذي وجد أرضاً خصبة لتلقي ثقافته، نجده قد تحكم فيها من حيث نوعية العطاء والمنع؛ ليظل العقل العربي في حالة تبعية وتوق لكل ما هو آتٍ من هناك، ورفض تام لكل ما يمثله الماضي المتحجر من وجهة نظره.
ومثّلت المناهج التربوية المدرسية والجامعية عِبئاً ثقيلاً يحول دون النهوض الحقيقي بالعقل العربي، وعجزت أن تقدّم أي نوع من أنواع التغيير الثقافي أو التربوي لتكوين الشخصية القيادية المفتقدة.
مثّلت المناهج التربوية المدرسية والجامعية عِبئاً ثقيلاً يحول دون النهوض الحقيقي بالعقل العربي، وعجزت أن تقدّم أي نوع من أنواع التغيير الثقافي أو التربوي لتكوين الشخصية القيادية المفتقدة
هل الشخصية العربية مؤهلة لتلقي المنهج المناسب؟
ربما تكون الشخصية العربية، والتي تمثل المستقبل في أركان العملية التربوية الثلاثة، ربما تكون اليوم مؤهلة أكثر من أي وقت مضى لتلقي العلوم التربوية الملائمة لهوية هذه الأمة، بعد ما عانته من الصراعات الداخلية سياسياً واقتصادياً، وبعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وتطور الإعلام ليرى الغرب بعين أخرى غير تلك العين المنبهرة على الدوام، والتي أحدثت حالة من الوعي التغييري، غير أنها ما زالت تفتقد للكيفية الملائمة، والتي لا تزيد الصراع الدائر إلا اشتعالاً، فيخسر المزيد من الأرواح، ويكتسب مزيداً من السنوات التي تبعده عن هدفه المنشود.
النسق التربوي الملائم "الرسالة التربوية":
إننا إذا قلنا إن آفة الأمة هي في نوعية التعليم المعاصر -سواء في المحتوى التعليمي الذي لا يراعي الفروق الفردية، ولا الاحتياجات المجتمعية، ولا التطورات العلمية، ولا الهوية الأيديولوجية -لم نخطئ الوصف، فهو لا يستند إلى قاعدة علمية معروفة، ولا يستند كذلك لهدف منشود يحققه عبر مجموعة من الوسائل، كذلك الانفصال التام بين المدرسة والأسرة، وبين الجامعة والمجتمع يصنع حالة من الفصام العلمي والعملي، فنجد سوق العمل في اتجاه، والمنتج التعليمي في اتجاه آخر مع ضعفه، ونستطيع أن نقول: إن البرامج التعليمية العربية حولت الطالب العربي لآلة تلقٍ، تحارب فيه كل محاولة للإبداع والتفكير .
ولذلك فهناك خصائص عامة للمنهج التربوي المنشود، لن أستطيع إحصائها وأدعو خبراء التربية للبحث فيها، غير أني أضع بعض الخطوط العامة لها:
1 ــ يجب أن يخدم المحتوى التربوي البناء المطلوب للشخصية المفتقدة.
2 ــ يراعي الحداثة العلمية للمناهج التربوية.
3 ــ ينبني على التعلم من الماضي "الأصالة"، ومراعاة ظروف الحاضر، والنظر المستقبلي.
4 ـ مراعاة الصفات التي يجب أن تتوفر في الشخصية القيادية التي تفتقدها المجتمعات العربية.
5 ــ منهج عملي سلوكي.
وفي هذا الصدد، يقول "د. ماجد عرسان الكيلاني" في كتابه "أهداف التربية الإسلامية": "إن ما تحتاجه الرسالة الإسلامية اليوم، هو قيام مؤسسات تربوية تفرز نماذج جديدة من العلماء الذين يحسنون إبراز معجزة الرسالة في ميدان العلم ، وتكون لهم الكفاءة العلمية والتفكير العلمي اللذان يؤهلانهم لاعتلاء المنابر الجديدة، اعتلاء منابر التلفزة ومحطات الإرسال الفضائية، والطباعة العالمية، ويخاطبون الإنسانية بأحسن ما عندها علماً وفكراً وأدباً، تحتاج المؤسسة الإسلامية إلى مؤسسات تربوية، ونظم ومفاهيم وتطبيقات تربوية جديدة تتعايش مع المفاهيم الجديدة للعلم".
المعلم التربوي أساس التغيير الحضاري "المرسل":
في الفترات الاستثنائية التي تمر بها الأمم، يلزمها كذلك وجود مفكرين استثنائيين؛ لوضع المناهج الملائمة لانحناءات وصعوبة المرحلة، ويلزمها معلمون استثنائيون؛ ليستطيعوا أن يقوموا بعدة أدوار في آن واحد، والمعلم في هذه الحالة هو حجر الأساس لإنجاح العملية التربوية الحضارية، قبل المنهج؛ لأن دوره لا يتوقف على عملية التلقين وتوصيل الرسالة، وإنما عليه أن يكون ذا دراية واسعة، علمية ونفسية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية، وفكرية تؤهله لتطويع المنهج الفكري؛ ليلائم كافة المستويات الاجتماعية.
فعليه توصيل المادة الخام كفكرة ثم متابعة الاستيعاب، ثم التقويم، وذلك في حقول مختلفة تمثل عقولاً ونفوساً مختلفة، وبيئات مختلفة.
المعلم هو حجر الأساس لإنجاح العملية التربوية الحضارية، قبل المنهج؛ لأن دوره لا يتوقف على عملية التلقين وتوصيل الرسالة، وإنما عليه أن يكون ذا دراية واسعة، بالعديد من الأمور التي تؤهله لتطويع المنهج الفكري؛ ليلائم كافة المستويات الاجتماعية
بل وعليه تحويل تلك المتناقضات لمنظومة متكاملة تصلح في ذاتها، ثم تتكامل فعلياً وعملياً داخل مجتمعها؛ لتكون فصيلاً متجانساً ليس فيه فضل لأحد على أحد إلا بعمله لا بجنسه، ولا لونه، كمجتمع بلال وأبي بكر الصديق وعمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، مجتمع غير عنصري إلا للفكرة، ولا فضل إلا لمن يقدم صالح العمل لذلك المجتمع الحضاري، الذي تحقّق بالفعل يوماً في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مجتمع الصحابة، ليس ذلك كالمجتمع الغربي الذي ضحى بسعادة الإنسان في سبيل راحته المادية، والتي حوّلته لآلة منزوعة الروح، تكاد تذهب بالإنسانية جميعها إن لم ينهض ذلك النور الغائب ليطهّر العالم قبل فوات الأوان.