يرجّح "العقل السلفي" أن الحق واحد لا يتعدد، وبالتالي فإن كل قول يخالف الحقَّ مهدورٌ، وقد يصل الأمر وصف صاحبه بـ"الضال" و"المبتدع". كان هذا الرأي كفيلاً بإشعال نار الخلافات بين التيارات السلفية المتعددة، فهي وإنْ كانت تنطلق في العموم من مبدأ واحد، وهو الرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح؛ إلا أنها اصطدمت بظنية النص التي تقرِّر أكثر من معنى بحسب نظر المجتهد وتعدد وجوه اللغة العربية، وبالتالي فإن الحق يتعدد في حقنا نحن البشر، أما الجزم بأن هذا القول أو ذاك هو مراد الله تعالى في النص الظني؛ فليس أكثر من كونه قناعة شخصية لا تلزم الأمة وبقية المجتهدين.
ولذلك؛ حين تعددت أقوال المرجعيات السلفية في المسائل المنهجية، وربما بعض المسائل العقدية أو الفقهية؛ وقع الافتراق، وحلّت الخصومة بينها، على اعتبار أن قول المخالف مصادمٌ للنص، ومحادٌّ لله ولرسوله.
أضف إلى ذلك أن الاختلال في تعريف "العقيدة"، مع التفريق بينها وبين الأحكام، من جهة الموالاة والمعاداة على أساسها، والقرب والهجر؛ أدى إلى فرقة عظيمة بين التيارات السلفية ذاتها من جهة، وبين التيارات السلفية وأخواتها الإسلامية من جهة أخرى.. وأقصد إغفال أن الموقف من القول المخالف ينبغي أن ينطلق من دلالة النص، لا من كونه متعلقاً بما يسمى بالعقيدة، أو الأحكام، فإذا كان النص ظنياً؛ اتسع إعذار المخالف طالما أن ظنية النص تحتمل قوله الذي ترجح لديه، سواء كان هذا النص متعلقاً بالمسائل العلمية (العقائد) أو العملية (الأحكام).
هناك أمر آخر يدفع بصدر الوحدة السلفية، وهو ضبابية ما يسمى بـ"فهم السلف"، فما هو فهم السلف في حقيقته؟ بل ما هو تعريف السلف؟ وهل للسلف فهم في كل مسألة؟ ولو نُقل عن أحد السلف فهمٌ لنص ما؛ هل يصبح هذا الفهم حجة على الأمة كلها؟ وما الضير في أن يكون فهم بعض من جاء بعد السلف؛ أرجح من فهمهم؟ وأين الدليل على منع ذلك؟ أليس اختلاف السلف أنفسهم في كثير من المسائل العقدية والعملية؛ دليلاً ظاهراً على أن فهمهم ليس بحجة؟ وإلا لاتفقوا جميعاً على فهم أحدهم، إذ إن فهمه - بزعمهم - حجة على الأمة كلها، وهم داخلون في الأمة بلا ريب.
هذه "الضبابية" جعلت السلفيين يتجاذبون مصطلح "فهم السلف" أو "منهج السلف"، وكل تيار منهم يجعل أقوال منظريه هو الفهم السلفي المعصوم، الأمر الذي أوقع الاختلاف فيما بينهم.
ولو أنهم حددوا معنى "السلف"، ورجّحوا أن الحجة إنما تكون في إجماعهم على فهم واحد؛ لهان الخطب، وانضبطت المسألة، وانحصر الخلاف. مع أنهم سيُنازعون بعدُ في حجية أصل الإجماع من جهة، والجزم بوقوعه من جهة أخرى.
وأحياناً يقع الاختلاف باختلاف نشأة رموز التيارات السلفية، فتجد أن أكثر رموز السلفية الإصلاحية قد نشأوا في جماعة الإخوان المسلمين أو قريباً منها، أما السلفية الجهادية فتجد أكثر رموزهم قد تلقوا العلم على أيدي علماء "الوهابية الأقحاح"، مع تأثرهم ببعض كتابات أبي الأعلى المودودي وسيد قطب، أما السلفية التقليدية فحصروا غالب آرائهم في الشيوخ الألباني وابن باز وابن عثيمين، واصفينهم بأنهم ممثلو السلفية فهذا الزمان، في حين انتقت السلفية الرسمية من آراء هؤلاء المشايخ الثلاثة ما يرضي الأنظمة الاستبدادية القائمة، وتربى رموزها على أيدي وكتب المشايخ المقربين من هذه الأنظمة.
ولا يمكن الحديث عن اختلاف السلفيين بعيداً عن السياسة، فهناك أنظمة استغلت آراء تيار سلفي حول طاعة ولي الأمر وعدم الخروج عليه، فقرّبته، وروجت آراءه في وسائل الإعلام، فصار رموزه عبارة عن موظفين لدى الأجهزة الأمنية، يحاول كل واحد منهم أن يقدم من الآراء والأقوال ما يرضي به أسياده، حتى وإنْ كان ذلك على حساب الشعوب المسكينة.
ليس المقصود مما سبق؛ حصرُ جميع أسباب الخلاف بين التيارات السلفية، وإنما وددتُ الإشارة إلى أهمها، لتبصير القارئ بها. والله تعالى الموفق.