مع اعتدال الأجواء أواخر شباط وأشهر الربيع آذار ونيسان وأيار، تكتسي أرضنا المباركة حلّة قشيبة خضراء تحوي فيما تحويه من خيرات الطبيعة نباتات حولية طيبة المذاق إضافة إلى أن أكثرها يصنف كنباتات طبية عالية القيمة، وما يزيدها قيمة امتزاجها بالتراث الأصيل لسكان تلك المنطقة الأصليين أصحاب الحق الراسخ فيها، حتى باتت العلاقة بينهما علاقة عضوية حيوية لا تنفصم.
علاقة تعدّ مكوناً مهماً جداً من مكونات الهوية لكليهما معاً، فما أن تذكر الزعتر إلا وتستحضر معه شعب فلسطين الذي يكاد الزيت والزعتر أن يسري في عروقه، والعكس صحيح أيضاً، فلا يذكر الشعب الفلسطيني إلا ويذكر معه الزيت والزعتر والزيتون، كما هو الحال أيضاً مع الميرمية والخبيزة والهندباء (العلت) وليس بعيداً عنهم نبتة "العكوب" أيضاً.
إنها نبتة شوكية برية تنبت في مثل هذه الأوقات في السفوح الجبلية وتعدّ من المأكولات الموسمية الشهيّة والشهيرة، كما أنها مصدر رزق لكثير من العائلات الفقيرة التي تعتاش على جمعها من الجبال وتنظيفها من الأشواك وبيعها في الأسواق، فلا غرابة أن يترقب موسمها عشاق الأرض وخيراتها، وأولئك الذين ذاقوا الطعم فتاقت له نفوسهم لارتباطه الدفين بربيع فلسطين الآسِر.
ولأن الاحتلال شرٌّ محض، وبلاء بغيض يعمّ كل مناحي الحياة، فإن شؤمه وقبحه تعدى الاستيلاء على الأرض والمقدسات، إلى أدق تفاصيل الحياة ومنها الأكل والشرب، فكان للعكوب قسط من إجرامه وعدوانه واستهتاره بالقيم والحقوق الإنسانية. ولذلك فلم يكن غريباً أن تحظر سلطات الاحتلال على الفلسطينيين جمع العكوب وتسن القوانين لمعاقبة كل من يتلبس بتلك الجريمة، لم يكن غريباً أن تتكرر مشاهد ملاحقة أبناء الأرض الذين يقومون بجمع العكوب في سهول فلسطين وجبالها من قبل الجيبات العسكرية لقوات الاحتلال ومصادرة كميات كبيرة منها وإتلافها، بل وتغريمهم آلاف "الشواكل" على فعلتهم تلك.
أمّا يقيننا الراسخ إزاء جرائم الاحتلال الغاشم فإن إزالته بالقوة عن أرضنا هو الحل الوحيد لكل المعاناة التي يعاني منها البشر والشجر والحجر في أرض تئن من ثقل أقدامهم عليها وشجر يلعنهم كل لحظة على فسادهم وإفسادهم. ذلك اليقين يملي علينا أن نبث في أجيالنا روح الأمل بقرب العودة المظفرة لتلك الديار المباركة، المبارك أهلها، المبارك ترابها ونباتها وهواؤها وكل شيء فيها. وإلى ذلك اليوم فما علينا إلا أن نؤدي أمانة توريث مفردات القضية للأجيال القادمة بكل تفاصيلها وأبعادها.
أما على نطاق تجربتي الشخصية وتوثيقاً لها، فعندما يتعلق الأمر بمسألة توريث مفردات القضية، فالمسألة تستحق التضحية والمبادرة وخوض تجارب فريدة وغير مسبوقة..
إنها الساحة الأوسع التي يمكن لكل من تحتل فلسطين الحيِّز الأكبر من كريات دمه وجيناته الوراثية أن يفجر طاقاته ويخرج إبداعاته في كيفية إرساء أساسات راسخة ومتينة لبناء الحب والانتماء للأرض المباركة في قلوب أبنائه.
ولأن الغربة المقيتة والتشرد القسري بعيداً عن مرابع الوطن كانا قاسماً مشتركاً بيني وبين أطفالي، فقد وجدت لزاماً عليّ أن أقوم بتوريثهم ما ورّثني إياه والداي من عشق وحب وانتماء لأرض الإسراء.
ومع المرارة التي كنت أتجرعها وأنا أنقل إليهم جراحات تقيّحت وآلام تعمّقت، إلا أنني كنت أحس بالمتعة وأنا ألحظ ثمار ذلك في كلامهم وتصرفاتهم وأحاسيسهم ومشاعرهم تجاه جنَّتهم الضائعة وفردوسهم المفقود، الأمر الذي شكّل حافزاً للاستمرار، ودافعاً للمواصلة.
وقد كان من بين كمّ هائل من تلك المفردات تعريف الأبناء ببعض الأكلات الشعبية التي اشتهرت كتراث خاص بفلسطين (وبعض بلاد الشام)، فكانت بداية الطريق مع السمّاقيّة (نسبة للسمّاق) والرمّانيّة (نسبة للرمّان)، ولا أظن أن أحداً يجهلهما من أهل غزة الصامدة، ومن خلالهما أتيح لأبنائي تذوق طبقين توارثتهما الأجيال الغزيّة جيلاً بعد جيل، وكل ذلك بفضل الحماسة التي أبدتها "أم العيال" لتعلم موروث عتيد من الوالدة حفظها الله.
لكن الأمر كان مختلفاً مع طبق آخر كالعكّوب الذي تفرّ من عناء إعداده نساؤنا من مسيرة كذا وكذا. ما جعلني أصمّ آذاني عن الادعاء والتشكيك في نسبته للتراث الفلسطيني من قبل بعضهنّ!! والعزم على تعريف الأولاد بنبتة سرقها منهم الاحتلال، وطبق صادرته منهم سنين الغربة خاصة عندما كنا بعيدين عن الشام. وقررت خوض تلك التجربة "الشائكة" وتحمل كافة تكاليفها "المادية والمعنوية" فانتهزت فرصة حلول موسمه، وابتعت كيلوجرامين منه دون أي دراية مسبقة مني بالجيِّد أو الرديء منه، واحتاج الأمر مني للتخفف من كافة الالتزامات والارتباطات والمواعيد للتفرغ لهذه المهمة، وهيّأت نفسي لمعركة دامية مع ذلك المخلوق الشوكي الذي أفزعت هيئته وأسنَّته المشرعة جميع أفراد البيت وجعلتهم يتسللون من حولي لواذاً خشية أن يتورط أحدهم بخوض المعركة معي في حال طلبت النجدة أو فكرت في رفع الراية البيضاء.. والحقّ أن ذلك كاد أن يحدث معي مراراً لولا استحضاري لمعانٍ كثيرة جالت بخاطري بعد أن نالت مني أشواكه ودميت منه إصبعي!!
فقد تخيلت –وأنا أعالج أشواك العكّوب- أن "داروين" كان سيربط بينه وبين الأسماك ويضع أحدهما في سلسلة التطور والارتقاء من الآخر لو كانت أتيحت لـه فرصة التعرف على العكّوب لعظم التشابه بين "حسك" هذا وذاك!!
والأهم من ذلك أنني تذكرت أثناء محنتي معه أمّي وأمّي!!
تذكرت أمّي بحنانها وصبرها وجلدها على اقتلاع أشواكه لأجل تقديمه لنا طبقاً شهياً فاخراً، دون أن يخطر ببالنا –ونحن نقضي عليه في دقائق معدودات- مدى المعاناة التي كابدتها الوالدة، أو كنّا نحسب حساب الساعات الطوال التي أمضتها الوالدة في تتبع أشواكه واقتلاعها..
وتذكرت أمّي فلسطين.. فهانت عليّ وخزات الأشواك وآلام الظهر المحنيّ على كومة العكّوب في سهرتي معه التي امتدت إلى قبيل الفجر!!
شعرت بأن المسألة لا تتعلق بمجرد أكلة عابرة، ولكنها تراث نرسخه في نفوس أبنائنا ليورِّثوه بدورهم لمن بعدهم، وليتغنَّوا بين أقرانهم بأنهم على علم ودراية ومعرفة بإحدى الأكلات الشعبية الفلسطينية النادرة، ما يعزز انتماءهم أكثر فأكثر..
التجربة كانت ناجحة بكل المقاييس، ونال العكّوب المطهيّ استحسان الأغلبية، وتعالت الأصوات منادية بتكرارها..
فما كان مني إلا أن أبديت أسفي بالاعتذار عن ذلك بحجة قصر موسم العكّوب الذي يبدأ –على حد علمي- في شهر نيسان وينتهي مع أواخر أيّار الذي شارفت أيامه على الانقضاء.. هذا من جهة.
أما من جهة أخرى فلأن الدارج بين الناس مقولة (علشان الشوك اللي في الورد بحب.. الورد) وليس العكّوب!!!