من بين أهم الروافد التي كانت ولا تزال تمثل ذراعًا أساسيًّا للدعوة الإسلامية وجهود أخرى كثيرة تخدم المجتمعات المسلمة، وتعمل على الحفاظ على هويتها، العمل الخيري الإسلامي، و#الأوقاف الإسلامية.
وتزداد أهمية هذه الروافد في خدمة فئات أساسية أكثر احتياجًا من غيرها، مثل البعوث الإسلامية، والأقليات المسلمة في الدول المختلفة، بالإضافة إلى فقراء المسلمين.
وفي السنوات الأخيرة، تعرضت هذه المنافذ المهمة إلى شكل من أشكال الحصار، بل الحرب الصريحة، على خلفية اتهامات عدة بالتورط في تمويل ما يعرف بالإرهاب، أو رعاية جماعات متطرفة، وفي الخلفية الهدف الأساسي لتلك الحرب، وهو محاصرة الجماعات والتيارات المحسوبة على الإسلام السياسي، والتي مثَّلتْ تحديًا كبيرًا لقواعد الأنظمة التقليدية الحاكمة، والقوى الدولية التي كانت تدعمها.
وفي حقيقة الأمر فإن محاصرة أي شكل من أشكال التمويل الإسلامي، عدا المصرفي الذي تشرف عليه البنوك المركزية في دولها، صار هدفًا أساسيًّا للحكومات وأجهزة الأمن والاستخبارات عبر العالم، في مرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م.
محاصرة أي شكل من أشكال التمويل الإسلامي، عدا المصرفي الذي تشرف عليه البنوك المركزية في دولها، صار هدفًا أساسيًّا للحكومات وأجهزة الأمن والاستخبارات عبر العالم، في مرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م
وكان ذلك مطلبًا أساسيًّا رسميًّا من الولايات المتحدة للحكومات الحليفة في العالم العربي والإسلامي، ضمن مجموعة من المطالب التي شملت تقييد التعليم الديني ومختلف البيئات التي يتحرك فيها المشروع الإسلامي، سواء على المستوى الفكري، أو المالي، أو المؤسسي.
وزاد من مساحة التعرض لهذا القطاع الهش في قدرته على التصدي للتحديات السياسية في مرحلة ما بعد أحداث ما يُعرَف بـ"الربيع العربي"، وظهور تلك الجماعات المسلحة الغامضة التي عاثت في مناطقها فسادًا، وخرَّبت كل الجهود التي بذلتها التيارات الإسلامية الحقيقية، والتي تحمل رسالة المشروع الإسلامي الحضاري الحقَّة؛ حيث تم توجيه الكثير من الضربات إلى هذا القطاع تحت ستار مكافحة الإرهاب، الذي بات مبررًا لكل شيء من جانب حكومات الشرق الأوسط كافة إزاء التيار الإسلامي.
وغالب الإجراءات التي تم تبنيها تمحورت حول غلق الجمعيات الخيرية الإسلامية، وشمل ذلك بلدانًا عربية ومسلمة، وبلدانًا غربية ؛ حيث تم غلق الكثير من الجمعيات في سويسرا والنمسا وألمانيا على خلفية الهجمات التي تعرضت لها بعض هذه الدول، وبإيعاز -في بعض الأحيان- من حكومات دول عربية وشرق أوسطية، بحجة أنها تمول أنشطة تتصل بنشر الأفكار متطرفة ودعم الإرهاب المسلح.
وبالرغم من أن الصورة الذهنية المأخوذة عن هذه الإجراءات تتعلق فقط بالجمعيات التي ثبت أنها قد تدعم بالفعل ما يُسمَّى بـ"جماعات السلفية الجهادية"، أو "الإخوان المسلمون"؛ فإن واقع الأمر أن هذه الإجراءات شملت كل ما يتعلق بالأنشطة الدينية، بدءًا من تحفيظ القرآن الكريم للأطفال، وحتى التحويلات المصرفية الدولية، وبدءًا من الجمعيات التي ترتبط بالفعل بتنظيمات سياسية ذات طابع إسلامي، وحتى الجمعيات التي لا تنتمي إلى أي تنظيم.
الأوقاف الإسلامية كذلك، باعتبار أنها ركن أصيل من مظاهر التكافل الاجتماعي في المجتمعات المسلمة، لم تسلم من الإجراءات والقيود، ما بين تقنين عملية إدارة أموالها، أو السعي إلى توظيفها توظيفًا سياسيًّا تحت عنوان عريض، وهو خدمة التنمية، بينما الهدف هو تحييد أموال الأوقاف عن هدفها في خدمة الشأن المجتمعي العام، ومنه الشأن الدعوي.
لم تسلم الأوقاف الإسلامية من الإجراءات والقيود، ما بين تقنين عملية إدارة أموالها، أو السعي إلى توظيفها توظيفًا سياسيًّا تحت عنوان عريض، وهو خدمة التنمية، بينما الهدف هو تحييد أموال الأوقاف عن هدفها في خدمة الشأن المجتمعي العام، ومنه الشأن الدعوي
في يوليو 2017م، عقد في العاصمة السودانية، الخرطوم، مؤتمرٌ بعنوان: "الوقف الإسلامي.. التحديات واستشراف المستقبل"، نظمته جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، ناقش الكثير من هذه القضايا والمشكلات، وقدم عددًا من التوصيات، لعل أهمها كان العمل على تأسيس شكل من أشكال التواصل بين الهيئات الوقفية عبر العالم الإسلامي.
وفي حقيقة الأمر فإن هذا الأمر –التواصل بين الهيئات الوقفية على مستوى العالم الإسلامي– في منطقه العام، على أكبر قدر من الأهمية، ولكنه –وللغرابة– من أكثر الأمور غير المرعية في العمل الإسلامي.
وقد يكون من مكرور الكلام ترديد ذلك، لكنه من الأهمية بمكان قوله، وهو أن الأمة التي أقامها الله تعالى على كلمة التوحيد، ووفر لها كل عوامل الوحدة، حتى الكتاب والتعاليم، هي أكثر أمم العالم الآن، تناحرًا وفرقة، وبينما من المفترض أن الشريعة هي التي تجمع المسلمين، مهما كانت هوياتهم القومية والعرقية؛ فإن الخلاف على فقه هذه الأحكام، صار هو عامل الافتراق الأساسي.
الأمة التي أقامها الله تعالى على كلمة التوحيد، ووفر لها كل عوامل الوحدة، هي أكثر أمم العالم الآن، تناحرًا وفرقة
وبالتالي فإنه نتيجةً للخلافات الراهنة بين الحركات والجماعات الإسلامية، وسيطرة فكرة القوميات والوطنيات الضيقة على شعوب الأمة، بشكل مقصود لإضعاف رابطة المسلمين، بعد هدم الدولة الإسلامية الجامعة؛ فإن هذه القطاعات شديدة الحيوية، صارت هي أكثر القطاعات التي دفعت الثمن على هشاشتها.
فالجمعيات الخيرية والهيئات الوقفية لا تملك أي مصدر قوة سياسي أو قانوني، وبالرغم من أنها تخدم شرائح مجتمعية عريضة؛ فإن هذه الشرائح هي من الشرائح الأكثر عوزًا وفقرًا، وبالتالي الأكثر ضعفًا، مما يجعلها غير قادرة على فرض كلمتها على الحكومات المعنية.
الهدف الثاني، هو إشراك القطاع الخاص في هذَيْن القطاعَيْن؛ لأن القطاع الخاص في الوقت الراهن، هو قوة سياسية لا يُستهان بها، في عالم الانفتاح الاقتصادي والتجارة الحرة، وحرية عناصر الإنتاج عبر الحدود.
وبالنظر إلى كثير من الفعاليات الأخرى المماثلة، التي عُقِدت في السنوات القليلة الماضية، فإن هناك الكثير من المعوقات الأخرى الفنية الطابع التي تواجه العمل الخيري والوقف في العالمَيْن العربي والإسلامي، بخلاف التخوفات من تمويل التطرف والإرهاب، وانقسامات المجتمعات العربية والمسلمة.
ومن بين هذه الأمور التقنية، عدم وجود أفكار جديدة لتوظيف التمويل الخيري، أيًّا كان مصدره، بدلاً من الاقتصار على مجالات مثل الإغاثة والإطعام، وما اتصل بذلك.
البديل يكون من خلال "الإنماء" الذي يعني أمرَيْن: الأول- استثمار التمويلات، والثاني- هو استغلالها في بناء أصول غير منقولة تكون قادرة على تقديم خدماتها لأعداد أكبر، وبصورة زمنية أكثر امتدادًا، مع اعتماد قواعد الشفافية وسائر القواعد التي تتفق مع الأجواء الجديدة التي تعمل في إطارها المؤسسات الخيرية والوقفية.
وفي الأخير، فإن ذلك كله يتطلب أشكالاً عدة من التخطيط الاستراتيجي الذي يتضمن كيفية البحث في تصفية وتنقية العمل الخيري من أية شوائب سياسية، ولو بصورة مؤقتة؛ تلافيًا للإغلاق الكامل للمجال أمامه، حتى يحدِث الله تعالى بعد ذلك أمرًا!