لقد كانت معركة الوسطية الإسلامية في السابق هي معركة الوجود في ظل الحرب عليها من الأنظمة الظالمة والتيارات المتطرفة.
صحيح أن الحرب من الأنظمة كان في مجمله على كل التيار الإسلامي بكل طوائفه الوسطية والمتطرفة على السواء، إلا أن هناك من الشواهد الكثيرة على أن هذه الأنظمة كانت تغض الطرف عن بعض التيارات المتطرفة في بعض الأوقات؛ لضرب التيار الإسلامي الوسطي المعتدل؛ ذلك لأن هذه الأنظمة أيقنت أن الذي يهدد كراسيها -حقيقة- هي تلك الوسطية الإسلامية التي تنفذ إلى قلوب وعقول الناس، وتكسب في كل يوم أرضاً جديدة، حتى غدت تلك الوسطية رقماً رئيساً في كل معادلة عربية وإسلامية، هذه الوسطية التي جمعت -إلى جانب وسطيتها تلك- الشمولية التي جعلت من الفكرة الإسلامية فكرة تجمع تحت عباءتها كل الواقع المعاش، و بكل أبعاده (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية وغيرها...).
وقد أحسنت هذه الوسطية في معركتها السابقة، ولا نتجاوز إذا قلنا أنها انتصرت، صحيح أن التيارات الأخرى المتطرفة كسبت أرضاً، وكسبت معارك في بعض الأحيان، إلا أن المشهد العام لَيدل على أن التيار الإسلامي الرئيس في الأراضي العربية والإسلامية أصبح هو ذلك التيار الذي يحمل الإسلام، ويؤمن به بوسطيته واعتداله وشموله.
إنّ الوسطية الإسلامية، وإنْ كانت قد كسبت معركة الوجود في ظل الأزمنة السابقة، فهي الآن في معركة البقاء في ظل ثورات الربيع العربي، وما تبعها من انقلابات ومؤامرات.
إنّ الوسطية الإسلامية، وإنْ كانت قد كسبت معركة الوجود في ظل الأزمنة السابقة، فهي الآن في معركة البقاء في ظل ثورات الربيع العربي، وما تبعها من انقلابات ومؤامرات
وإذا أخذنا نموذج "مصر" كنموذج رائد في كل زوايا المشهد الذي نتحدث فيه، فالثورة المصرية ثورة رائدة، والانقلاب عليها انقلاب رائد، والتيار الإسلامي الوسطي المصري تيار رائد، وكذلك التيار الإسلامي المتطرف المصري تيار رائد.
فإننا نرى أن معركة الوسطية الإسلامية -بمشروعها الإسلامي الشامل- معركة كبيرة في اتجاهات كثيرة، معركة أمام خصوم أربعة: هي ذلك الخصم الإسلامي المتطرف، وذلك الخصم العلماني المتطرف، وذلك الخصم المسيحي المتطرف، وذلك الخصم الحاكم المتطرف.
وإذا ما أردنا أن نبيّن أهم ما في هذه الخصوم الأربعة، مما يجعل منها خصماً حقيقياً للمشروع الإسلامي الوسطي، فإننا نقول:
- التطرف الإسلامي:
بما يقدمه من فكرة إسلامية رافضة لكل ما عداها، إلى درجة تجعل من معاداة الآخر أهم أولوياتها، وأعظم ما تتقرب به إلى الله، وأول خصومها في معركتها هو تلك الوسطية الإسلامية؛ لأنها في نظرها ليست وسطية، ولكنها ميوعة وتسيب، وإفساد للدين ومبادئه تحت إدعاء الوسطية والتيسير.
كما أنها تنظر لغيرها المسلم العلماني نظرة مبالغة في التطرف، تصل في كثير من الأحيان إلى التكفير، ولا تقبل أبداً أن تعتبر تلك الفكرة العلمانية كنوع من أنواع الاجتهاد في تفهّم مراد الشرع، ولا تقبل أن تفرق بين العلمانيين المعتدلين والمتطرفين، ولكنها ترمي بكل الاجتهادات العلمانية في سلة واحدة، هي سلة المروق عن الدين وشريعته.
وبالطبع فهي تنظر إلى مسيحيي مصر نظرة تمتلئ بالمعاداة والتحفز، وتقدم فقهاً إسلامياً في التعامل مع هؤلاء المسيحيين لم يعد مناسباً في وقتنا الحالي؛ نظراً لأن تلك الفتاوى كانت فتاوى اجتهادية تناسب عصراً دون آخر.
- التطرف العلماني:
الذي يقدم طرحاً علمانياً متعالياً، يرى من جميع الرؤى غيره رؤى ظلامية سوداوية، ولا يحترم في أطروحته هذه، لا المبادئ الإسلامية، ولا الأعراف الاجتماعية، ولا حتى المشترك الأخلاقي الإنساني المتعارف عليه، ويجعل من نفسه وصيّاً على الشعب واختياراته، فلا يقبل اختيارات الشعوب إذا ما أتت بغيره، تحت زعم أن الشعب غير مؤهل تأهيلاً كاملاً للاختيار، وينقلب على هذه الديمقراطية التي ينادي بها ليل نهار إذا ما أتت بفكرة أخرى غير التي يؤمن بها، ويسعى حثيثاً ليجعل لها قاعدة شعبية.
وبالطبع، فنحن هنا نفرّق بين هذا التطرف العلماني، وذلك الآخر العلماني المعتدل الذي يطرح رؤيته اقتناعاً منه بها، وإخلاصاً منه في محاولة الوصول بالوطن إلى حال أفضل، ولكنه مع ذلك يحترم المعتقدات والمبادئ والأصول والأعراف، ويحترم أيضاً اختيار الناس ورغباتهم، مقدماً في ذلك صورة مقبولة للعلمانية والديمقراطية.
لابد أن نفرق التطرف العلماني، وذلك الآخر العلماني المعتدل الذي يطرح رؤيته اقتناعاً منه بها، وإخلاصاً منه في محاولة الوصول بالوطن إلى حال أفضل، ولكنه مع ذلك يحترم المعتقدات والمبادئ والأصول والأعراف
- التطرف المسيحي:
هذا الذي يجعل من الآخر المسلم خصماً له على كل أحواله، وتتملكه في ذلك بواعث الحقد والحسد والكراهية، ويسعى جاهداً لرفض الفكرة الإسلامية، وتأييد كل معادٍ لها، ولا يفرق في ذلك بين فكرة إسلامية وسطية تعطيه حقوقه كشريك أساسي في الوطن، وبين الأخرى المتطرفة.
ويصل ذلك الطرف المسيحي المتطرف إلى أبعاد خطيرة، فيتقوقع في داخل كنيسته كبديل عن الوطن ومؤسساته، ويسمي نفسه شعباً قبطياً في اصطفاف ديني متطرف، ويعيش فكرة الحرب مع شريكه المسلم، لدرجة أن يصل الأمر إلى إعداد السلاح كما نسمع في بعض القضايا ورواياتها.
وأيضاً، فنحن هنا نفرّق بين ذلك الطرف المسيحي المتطرف، وبين المسيحي الآخر الذي يسعى جاهداً لمعايشة أخيه المسلم، وبناء الوطن معه، ويتحرر في ذلك من سلطان كنيسته التي باتت داعية التطرف المسيحي الأولى، ونتذكر في ذلك المثال المسيحي الأكبر لهذا الاعتدال "مكرم عبيد باشا"، الذي قال يوماً: "أنا مسيحي عقيدة، مسلم وطناً وحضارة".
لابد أن نفرّق بين ذلك الطرف المسيحي المتطرف، وبين المسيحي الآخر الذي يسعى جاهداً لمعايشة أخيه المسلم، وبناء الوطن معه، ويتحرر في ذلك من سلطان كنيسته التي باتت داعية التطرف المسيحي الأولى
- تطرف النظم الحاكمة:
وهذه هي المعركة الأكبر مع ذلك الخصم الألد، الذي يحارب الوسطية الإسلامية؛ لأنه يعرف أنها الخطر الحقيقي على وجوده، بل والخطر الوحيد، فهي المشروع الذي يقبل عليه الناس يوماً بعد يوم، وهي المشروع الذي ينافس هذه الأنظمة على كراسيها منافسة حقيقية وقوية.
ولقد تطرف النظام الحاكم المصري في معركته مع الوسطية المصرية ومشروعها، إلى حد الانقلاب عليها بعدما آلت الأمور إليها، وإحداث المجازر فيها، وقتل أبنائها وتشريدهم وسجنهم، في صورة ملحمية تشبه سابقتها في عهد الطاغية عبد الناصر، بل وتزيد عليها في كافة النواحي والأبعاد.
هكذا يتضح لنا أن معركة الوسطية الإسلامية ستظل معركة دائمة ومستعرة، بل وستمضي من جولات إلى جولات أشد وأدمى، حتى يأذن الله بذلك اليوم الذي تنتصر فيه انتصارها الكبير، عندما تهزم أعداءها، فيتوارون هزيمة وخوراً، وتقيم حينها دولتها الموعودة، التي جاء فيها حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) (رواه أحمد والطبراني والبزار).