أُشرف من واقع الحاضر في هذا القرن الذي بلغ أوج ما بلغته الإنسانية من التقدم والحضارة المادية، والتي كان لها أن تُسعد إنسانَ اليوم، وترتقي به صعوداً، لا أن تهوي به هبوطاً!
أُشرف من خلال الواقع الذي نحياه على الماضي الذي يجيش في صدري بكل فيوض الحنين، الماضي الذي لم يبلغ عُشر ما نبلغه اليوم من تقدم على المستوى المادي، ونبكي على أطلاله وآثاره بكاء المفجوع الذي فقد ماله وولده وأهله، كيف لا، ونحن نعيش نكبة إثر نكبة، شوهت معالم حضارتنا، وصميم إنسانيتنا، في وقت بات الإنسان فيه أبخس الأثمان في هذا الزمان.
زمان التقدم المادي والحضاري الذي عجز عن أن يؤلف بين صفوفنا، أو أن يجمع بين شتات قلوبنا، فجعل منّا شرذمة تتفرق أشتاتاً أشتاتاً، تتعاقب الفصول علينا ولكنها ليست إلا الخريف، يقصف زهرة شبابنا، ويُسقط براءة طفولتنا، وينتكس بكل القيم والمبادئ التي يتشدق بها المتشدقون .
كنّا أمة، بل خير أمة جمعت ما فرقته الأجناس والقبائل والفصائل، أمة وحدت وجهتها القِبلة، وألّف بين أرواح أفرادها رسالة السماء، وجمعت بين قلوبهم مبادئ هذا الدين، بعدما عاثت بها العصبيات الجاهلية والقبلية والطائفية، فجمعهم على قلب رجل واحد خطاب الواحد الأحد: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[سورة الحجرات:10]، فقام هذا الدين على كتف بلال الحبشي إلى جانب صهيب الرومي وسلمان الفارسي، يبسط لهم الأنصاري في قلبه وروحه وبلده مكاناً علياً ، فجعلت منهم المجتمع المتآخي كما البنيان، يشدُّ بعضه بعضاً، بعدما تشرّبت أفكارهم وقلوبهم هذه العقيدة رغم بساطة حياتهم، وشظف عيشهم، فتحقق قول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيهم: (المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله) (رواه مسلم)
وقف المؤمنون يواجهون عداوة قومهم وذوي القربى، وتأتي اللحظة الحاسمة فينتصرون لدينهم، فيقررون الهجرة عن ربوع الوطن العزيز في سبيل الحفاظ على هذا الدين الأعز من المال والولد والأهل بل والنفس، وينزلوا في أرض ووطن جديدين، كانت قلوب أصحابه موطناً لهم من قبل أن تحتضنهم حدوده الجغرافية.
وكثيراً ما تستوقفني هذه الصورة لأتجرع مرارة الذل والهوان الذي تتجرعه أمتنا اليوم، بعدما كان أسلافهم قد رسموا طريق العزة والإباء، فشتان بين هجرة وهجرة! هجرة الأمس جعلت من سكان الموطن الجديد أخوة يتقاسمون السكن والمال، والأمل والألم، فرسموا معالم العزة لكل من أراد لها سبيلا،ً لكن هجرة اليوم، هبطت بنا إلى أسفل دركات الانحطاط في عصر بلغت به البشرية من التقدم ما بلغت، لكنه تقدم لهو أعجز من أن يحفظ العزة لمظلوم خرج من أرضه ووطنه مستجيراً، فصار اسمه لاجئاً، يقذفه البحر جثة هامدة، أو تتناوله نيران الإنسانية المزعومة على الحدود على مرأى ومسمع كل من مؤسسات حقوق الإنسان الدعيّة.
هجرة اليوم، هبطت بنا إلى أسفل دركات الانحطاط في عصر بلغت به البشرية من التقدم ما بلغت، لكنه تقدم لهو أعجز من أن يحفظ العزة لمظلوم خرج من أرضه ووطنه مستجيراً، فصار اسمه لاجئاً
وصرنا نُعبر بمصطلحات خلت منها الرحمة، كما خلت منها الإنسانية، وعلى أساسها نصنف الناس حسب بطاقاتهم، فهذا لاجئ، وهذا مواطن، دون اعتبار لأدنى احترام لكرامة وإنسانية الإنسان، فهويتك تحدد قدرك وقيمتك ولا غير ذلك.
فشتّان بين هجرة كانت الأساس في قيام دولة أشرقت شمسها شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وبين هجرة اليوم التي ما أورثتنا غير مزيد من مخيمات اللاجئين، فكانت الضربة القاضية في صميم الإنسانية، وصفعة الحقيقة على وجهها المشوّه عندما عجزت عجزاً سافراً عن تأمين حياة آمنة لبراءة الطفولة، وعن تقديم لقمة عيش كريمة لآلاف الأمعاء الخاوية.