عندما أورد لنا القرآن الكريم قصة خذلان بني إسرائيل لنبي الله موسى ورفضهم دخول الأرض المقدسة التي كتبها الله لعباده المؤمنين بحجة الخوف والجبن، أشار إلى معضلة نفسية غريبة، وهي: أن يتعالى الجبن والخوف الشديد ويتحول إلى وقاحة شديدة في حق موسى وربه فقالوا (إذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون).
هذه الجبن المغمس بالوقاحة في حق الله مع كل ما جاء به موسى من بينات أسقط القوم من عين نبيهم، وكأني أراه يضرب كفيه حسرة على قوم قتلهم الخوف من الناس قبل أن يقتلهم الناس، بعدما رأوا نصر الله لهم على طاغية زمانهم فرعون، فدعا ربه (إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين)، طلب ينبئ عن ألم يعتصر قلب النبي المرسل، وشعور بخذلان عظيم من قومه وعدم اعتراف بقوة الله وعونه، وأنفاس حرّى ملؤها الألم.
فما كان من الله العزيز الحكيم إلا أن يجيب دعوة نبيه الهمام، فحكم حكماً وعاقبهم عقوبة وواسى عبده:
1- حكم بأن هذه الأرض المقدسة (محرمة عليهم)، فهي أطهر وأقدس من أن يدخلها الفاسقون فاتحين.
2- وعاقبهم بـ (أربعين سنة يتيهون في الأرض)، ولعلها من أعجب العقوبات الربانية، فالتيه في الأرض جغرافيا وفي هذه المدة الطويلة ينعكس بظلال مؤلمة على النفس جراء شنيع فعلتهم ووقاحتهم، وهي كفيلة أن يشعروا بشعور الخذلان الذي قطّع قلب نبي الله موسى وأخيه، فنبي الله قد تحمل معهم حملاً ثقيلاً لم يخفف منه إلا ارتباطه بالعظيم وكلامه المباشر معه، وبهذه المدة الطويلة يبدّل الله جيل الجبن والوقاحة والخذلان، بجيل تربى على الحق المنشود، يسمع حكاية النبي الذي كابد التعب والنصب مع قوم خذلوه، ويتشرب معاني العزة والكبرياء من قسوة الصحراء، ويغير عالم أفكاره الصدأ وتصديق فعل الأقدمين إلى أفكار النبوة الحية حتى لو قضى موسى نحبه.
3- وواسى نبيه المرهق فقال (فلا تأس على القوم الفاسقين)، فقد خسروا دنياهم وأخراهم، وفاتتهم العزة بأيديهم، فالعبرة بالجيل العائد من لجّة التيه.
وهذا ما جرى، فانتفض الجيل الجديد بقيادة نبي الله يوشع بن نون ودخلوها أطهارا شجعانا فاتحين، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه البخاري.
لذا... وجب علينا الاعتبار من هذا المشهد القرآني، بأن خذلان الحق يدخل في نفق التيه، تيه في الأفكار والأشياء والأشخاص والعلاقات، وبمدة لا يعلمها إلا الله، ولا يخرج منها التائه إلا بتوبة "تغيير الحال وتحقيق مناط الاعتبار"، والانطلاق نحو الحق المبين بكل إصرار وعزيمة، متذكراً... (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم).
وصدق الله حيث قال (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب).