لست أدّعي في رسائلي تلك أنني أمثّل فيها الأخوات جميعهن، وإن كنت واحدة من أولئك اللّاتي تربّين في حضن تلك الدعوة منذ الصغر، فأعطتنا أكثر مما أعطيناها، بل هي كانت مكوننا الأساسي، فصرنا جزءاً منها، بها نتحدث ولها نتحرك، فرضت علينا مجتمعاً لم نعرف سواه، حتى صارت الحياة لنا جنة بكل ما تعنيه كلمة جنة من سعادة وسكون وألفة وحب وصدق ورحمة وأمان!
كنّا نشفق على الآخرين وكأنهم جزء منا، ونحن عنهم مسؤولون، لا نطيق لأحد حزناً أو هماً أو فقراً أو مرضاً، وكيف لا وقد علمتنا دعوتنا ذلك، ليس تعليما لفظياً بكلمات مسموعة، وإنما دروساً عملية، وجدنا عليها معلمينا ومربينا، سقونا الرحمة في قلوبنا تجاه مجتمعاتنا سقياً، علمونا كيف نشعر بحاجة الآخر قبل أن ينطق، وأن نحسن الاستماع للآخر دون أن يطلب، وأن نصغي بقلوبنا قبل أن تصغي آذاننا، وأن تفيض عيوننا دمعاً رغماً عنا لبكاء طفل أو ألم أمٍّ، أو وجع شاب أو فتاة، علّمونا الإنسانية، وقبلها العقل والحكمة، وميزان الأمور بميزان الشرع لا الهوى، والرحمة لا العدل، والحق لا المجاملة .
علّمونا أن الصواب ليس مطلقاً طالما أنه في دائرة المباح، وأن احترام الرأي وكل رأي واجب طالما لم يكن هناك نص للوجوب أو التحريم.
علّمونا أن الأصل الثقة ما لم يظهر ما يدعو للشك، وحسن النية ما لم يدعو الأمر لغير ذلك ، علّمونا أن الحرية هي الأصل ودونها نبذل الروح رخيصة، فلا حياة بغير إسلام، ولا إسلام بغير حرية، بل الإسلام هو في الأصل تحرير الإنسان من عبودية كل ما هو دون الله، الإنسان حرٌ كما خلقه الله حراً، وميّزه بالحرية، والحرية حق له، بل واجب عليه أن يستردها، وينتزعها انتزاعاً من أولئك الذي يستبيحونها، ولذلك كانت الصفات العشر للمسلم التي ذكرها "البنا" رحمه الله، هي سمات قوة وعزة ورفعة وكرامة، قوة الدين والأخلاق، والبدن، والعقل، والمال، والمكانة المجتمعية:علّمونا أن الصواب ليس مطلقاً طالما أنه في دائرة المباح، وأن احترام الرأي وكل رأي واجب طالما لم يكن هناك نص للوجوب أو التحريم
1-سليم العقيدة. 2-صحيح العبادة. 3-مجاهد لنفسه. 4-حريص على وقته. 5-منظم في شؤونه. 6-نافع لغيره. 7-قوي الجسم. 8-متين الخلق. 9-مثقف الفكر. 10-قادر على الكسب.
فأتينا منها قدر استطاعتنا تحت رعاية ومتابعة أساتذتنا، تعلّمنا من رسائل "البنا" أن الجهاد فريضة على المجتمع المسلم، قال تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ، وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء،آية:74]، هي واجبة عليه بموجب إسلامه، وهي حق للغير عليه بموجب رسالته السماوية، وهي التبليغ وتعرف الخلق بالله.
تعلّمنا الفرق بين الغاية والوسيلة، وأن التنظيم ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة لتجميع كلمة المسلمين تحت راية الشمول، وراية العدل والحرية، وأننا لسنا جماعة المسلمين ولا ننوب عنهم، وإنما نحن جماعة من المسلمين نعمل لأن يكون للمسلمين جماعة، ودولة، وخلافة، مشروعاً عالمياً للهداية، سرنا أولى خطواته هنا في بلادنا بهمة عالية، وتضحية، نتلمس فيها خطى من سبقونا على ذلك الطريق، وعلى منهاج النبوة الأول، وعلى أثر أخوات لنا سبقننا، بداية من خديجة رضي الله عنها، مروراً بسمية وأم عمارة، وحتى زينب الغزالي عليهن رضوان الله.
تعلّمنا الفرق بين الغاية والوسيلة، وأن التنظيم ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة لتجميع كلمة المسلمين تحت راية الشمول، وراية العدل والحرية، وأننا لسنا جماعة المسلمين ولا ننوب عنهم، وإنما نحن جماعة من المسلمين نعمل لأن يكون للمسلمين جماعة، ودولة، وخلافة
تعلمت الزوجة فينا أن تدفع زوجها لساحات العمل الدعوي، لا أن تكون عائقاً له، لا تشغله بمطالب دنيا ثانوية، ولم تمثّل له عبئاً يوماً في سبيل جهاده، كانت خلفه ومعه، بل وتسبقه أحياناً، الأم فينا لم تضن بأبنائها، الابنة فينا في مقدمة الصفوف.
حتى صار رجالنا بين شهيد ومعتقل ومطارد ولاجئ، لم نتراجع، ولم نندم، ولم نستقل، وأكملنا الطريق مختارين، مصرّين على استكماله للنهاية، فكانت منّا الشهيدة التي تركت أطفالها في حفظ الله، وكانت منّا المعتقلة التي لم تبدل، وكانت منا التي تعول بيتها وأبناءها، وتتنازل عن مقتنيات بيتها راضية مطمئنة في سبيل فكرة آمنت بها.
في يناير العظيم، كنّا في مقدمات الصفوف بلا خوف، إلى جانب الرجال قادًة وشباباً، لم نعرف تلك التقسيمات، ولم تؤثر فينا حين نودي بها للمرة الأولى، ولم نلتفت لها، بل كنّا أشد ثباتاً من الجبال، كانت الأقوال تثار، والصفوف تشقّ، ودعاوي الانقسام تملأ الآفاق، بينما كنا في الشوارع نهتف بسقوط الطغاة، لم نسأل ولم نهتم، فوقت المعمعة لم نرَ قائداً غائباً، ولا شاباً متخاذلاً.
الجميع كان يعطي، الجميع كان يتساقط حين يملأ الغاز رئتيه، فيعجز عن التنفس، الجميع كان ثابتاً حين استشهد الأبناء، قادة وصفّاً، لم أر بعيني هارباً، ولم ألاحظ أن أحداً نأى بنفسه عن الشهادة، بل كنت أرى من شيوخنا من يسابق الشباب تجاه الموت، لولا أن تخذله قدماه اللتان عجزت عن حمله نتيجة تقدمه في السن، وبعضهم كان يسبق بالفعل إلى حيث يبذل روحه في حب ورضا.
ومنذ أن حفظت -قلباً ووعياً وحركةً- أركان البيعة (الفهم والإخلاص والعمل والجـهــاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخـوَّة والثقة)، وقد تعلمت أن رأيي في الجماعة كرأي مرشدنا، فلم أتوانَ عن الإدلاء برأيي، نصحاً حيناً، واستكمالاً لرأيٍ حيناً آخر .
سمعوا لي، وكثيراً ما أخذوا به، وقليلاً ما ردّوه، وفي النهاية أخضع للشورى التي ارتضيتها، وكل مرة كنت أستشعر بركة الشورى، وبركة الأخذ برأي الأغلبية، ونستكمل الطريق: ثقة في الفكرة، وثقة في قادتنا، وثقة في أنفسنا.
سرنا في الطريق ونحن على يقين من نهايته، ونحن كذلك نعرف طبيعته، ونتوقع معاداة الناس لنا، فلسنا في ذلك بدعاً من الدعاة، وهذا هو طريق الأنبياء والمصلحين من قبل، وقد رأينا منذ اليوم الأول لنشأة الجماعة حين انتبه لها الاستعمار والملك الجائر، كيف كان التنكيل وكيف كان البطش، وذهب الجميع، وبقيت الجماعة صامدة قوية فتية، لم تؤثر فيها المحن، أو خروج من لم تلهمه أنفاسه استكمال طول الطريق وتحمّل مشقته.
وفي كل مراحلها كانت نساؤها بجوار رجالها، (أم وزوجة وابنة وأخت) تمثل عاملاً إيجابياً فيها، لا عامل هدم أو ضعف، وكانت في كل محنة تثبت عمق تربيتها، وصلاح منبتها، وسعة ثقافتها، وقوة عقيدتها.
فمثلت الجماعة لنا بيتاً حقيقياً، وملجئاً وحصناً نتحرك منه وإليه في سبيل الوصول لغايتنا الكبرى، الغاية التي تميّزنا فيها عن نظيراتنا في مجتمعاتنا، ففي الوقت الذي تسعى فيه أي امرأة لرفعة شأن أسرتها، ومستقبل أبنائها، وتحسين وضعها على كافة المستويات، كانت الأخوات يتحركن في المجتمع لنشر فكرتهن بالحب والحكمة، وفي الوقت الذي يشتكي الجميع من قلة ذات اليد، كانت الأخت تصنع من القليل كثيراً، بينما هي تتحمل من المسؤوليات فوق ما يطيق الرجال في طاقة متجددة لا تكلُّ ولا تملّ، كانت تضحي بلا حساب، تقف في طوابير الزيارات بغير شكوى، تتحمل المسؤولية بدلاً من زوجها الغائب، أو المفصول من وظيفته في رضا تام، بل وفخر يعجز غيرها عنه.
مثلت الجماعة لنا بيتاً حقيقياً، وملجئاً وحصناً نتحرك منه وإليه في سبيل الوصول لغايتنا الكبرى، الغاية التي تميّزنا فيها عن نظيراتنا في مجتمعاتنا
حتى وصلنا لذلك اليوم المشؤوم، يوم الانقسام النكد الذي سمعنا فيه مصطلحات لم نسمعها يوماً، ولم نتصور أن تكون بيننا يوماً، ومناوشات لم تتم بين الأخوة يوماً، فتوقفنا في حالة خوف لم نشهدها حين كان زوّار الليل يحطّمون علينا أبواب بيوتنا ليلاً، شاهرين في وجوهنا السلاح، بل كنّا نطاردهم بكلمات لا يستطيعون مواجهتها وهم من يحلمون السلاح لا نحن.
خافت الأخت للمرة الأولى على كيانها وحصنها المتين، حين تبارى الإخوان للمرة الأولى مطلقين مصطلحات لم نتصورها، شيوخ وشباب، جبهة وجبهة، قديم وجديد، وصرنا في قلب المحنة منقسمين، وصرنا في الوقت الذي نحتاج فيه لمزيد من قوة اللحمة وقوة الكلمة الواحدة متمزقين ، وصار هذا مع هذا، وذلك تبع ذاك.
فمنذ متى أيها الإخوان؟ منذ متى ونعرة التبعيّة لأشخاص تحرّكنا، منذ متى ننادي بشيوخ وشباب وقد كنّا صغاراً يعلّمنا الكبار، وكان الكبار يدفعون الصغار؟ منذ متى والجميع كان يهرب من كلمة "مسؤول" شفقة منها، ولا يقبلها إلا بتكليف، فلا يستطيع وقتها أن يرفض، بل يقبل المسؤولية على استحياء وخوف أن يخطئ، فيطلب العون من الله ثم من إخوانه، ولقد عرفت بنفسي أخاً يعرض على الإخوان مالاً؛ ليعفوه من الترشح لمجلس الشعب، في الوقت الذي كان يسعى فيه غيرهم لدفع نفسه للحصول على تلك العضوية، شفقة من منصب قد لا ينجح فيه في خدمة دينه، فلم اليوم ذلك السباق المحموم على من يقود ومن يفرض كلمته؟ أتدرون فعلاً قيمة المسؤولية وحجمها؟
الجميع في السابق كان يهرب من كلمة "مسؤول" شفقة منها، ولا يقبلها إلا بتكليف، فلا يستطيع وقتها أن يرفض، بل يقبل المسؤولية على استحياء وخوف أن يخطئ، فيطلب العون من الله ثم من إخوانه
لم اليوم يحاول البعض أن يهدم صرحاً مات مَن قبلنا في سبيله؟ لم التناحر في الوقت الذي ينحرنا فيه عدونا من كل صوب؟ وإخوانكم في المعتقلات يموتون دون كلمتهم، ورئيسكم يساومه العالم على كلمة في مقابل حياة الرغد والنعيم، والأمان في القصور فيأبى؟ فلم الانقسام؟ وعلام التناحر والصراع؟
الفكرة واضحة، والهدف واضح، والوسائل إليه متعددة، قد نختلف فيها وقد نتفق، فلم لا يسع أحدنا الآخر طالما أن هناك سعة؟ كيف استطاع أحدكم أن يتّهم أخاه بالخيانة؟ وكيف استطاع الآخر أن يطالبه بالخروج؟ لم لا نجتمع بحق من مات، وحق شباب قدموا أحلامهم فداءً لدعوتهم، ونساء ترملن وتثكلن وتيتمن، وشيوخ قدموا أبناءهم وبناتهم فداءً لدعوتهم؟
لم من أجل هؤلاء لا تجمعنا طاولة واحدة يسمع كل منا الآخر؛ للوصول لبرّ الأمان بجماعتنا التي وصلت إلينا، ونحن على وشك تضييعها؟ لم لا نجتمع ونعرض في أدب كما تعلمنا، ونسمع في حب وود كما علمتمونا؟ لم نضيّع أمانةً دفع غيرنا عمره حفاظاً عليها؟
هل تسمعون يا أبناءنا؟ هل تسمعون يا قادتنا؟
الأمر أكبر من الخلاف بكثير، وهناك من ينفث في الصف ناراً؛ ليظل الحال كما هو، والدماء تنزف والخاسر جميعنا، كلنا خاسرون، الأم التي تنتظر القصاص لابنها خاسرة، الأب المعتقل العاجز عن مساعدة زوجته خاسر، الفتيات اللاتي انتهك الظالمون أعراضهن في السجن خاسرات، الأم التي تختطف دون أن تجد محامياً يقيم لها دعوى أمام القضاء خاسرة، النساء اللاتي يخرجن كل يوم غير عابئات لأي جبهة ينتمين في مواجهة المستبد خاسرات، الوطن خاسر أيها الإخوان فهل تسمعون؟
هلّا تلقون خلافاتكم جانباً، وليؤدي كل منا ما عليه تجاه فكرته حتى يخرج الجميع، ثم نناقش ما يجب علينا فعله؟ هل تسمعون صرخات الجميع أم أن نعرة الخلاف أصمت آذان الجميع!
هلّا تلقون خلافاتكم جانباً، وليؤدي كل منا ما عليه تجاه فكرته حتى يخرج الجميع، ثم نناقش ما يجب علينا فعله؟ هل تسمعون صرخات الجميع أم أن نعرة الخلاف أصمت آذان الجميع!
تلك صرخة أخت من الأخوات فاسمعوها، لا تضيّعوا ما بناه غيرنا، لا تهدموا صرحاً يظلنا جميعاً، وهو أمل الأمة الأخير في الخلاص، فهل تسمعون؟ بالله عليكم أيقظوا ضمائركم جميعاً، وأنا على يقين أن ما يحرككم الخوف عليها، فلا تكونوا كدابة تقتل صاحبها، لا تسمعوا لأصوات تثيركم وتشعلكم ناراً تحرقون بها صرحكم، اهدؤوا قليلاً، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل:92].
وتذكروا قول ربكم يا أهل القرآن:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]. والله أكبر ولله الحمد.