عندما تحاكم الطهارة

الرئيسية » بأقلامكم » عندما تحاكم الطهارة
muslim-quran7-min

بعد عودته من تجواله بين الناس في السوق، جلس في بيته الذي يقع آخر ناحية في القرية *(التي كانت تعمل الخبائث)*... مهموماً شارد الذهن يقلّب وجهه في السماء لعلّه يجد حلا لواقع قومه الذي لا يطاق.

لم تستطع نفسه العفيفة أن تتقبل ما يفعلون، فقد انتشرت الفواحش بينهم بكثرة، وانتكست فطرتهم بشكل غير مسبوق، حتى إنهم اتخذوا *(الرجال شهوة من دون النساء)*، بل وأعدوا لذلك نادياً كبيراً يجتمعون به لغايتهم المشؤومة، وأصبحوا يقطعون الطريق على التجار والمارة فيسرقون أموالهم ويفعلون المنكر بمن قدروا عليه.

كان يتعوذ من الفكرة ورجاستها كلما تذكرها أو حتى تخيلها، فكان يصرخ بهم *(ألا تتقون ؟؟)*، *(إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحدٍ من العالمين)*... كان يحاول أن يخاطب بقيّة العقل فيهم *(أتأتون الذكران من العالمين، وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم ؟؟)* فهذا اعتداء صارخ على الفطرة الإنسانية، بل هو ارتكاس أبعد من البهيمية، فالبهائم لا تفعل فعلتهم تلك.

كان يعلم تماما *أن الكفر والعناد هو سبب انقلاب موازين العقل والمنطق والفطرة*، لذلك كان يحدثهم حديث الناصح *(إني لكم رسولٌ أمينٌ، فاتقوا الله وأطيعون..)*، وكثيرا ما لاحقته تهم معارضيه -من مدعي الدفاع عن الحريات الشخصية- "حتى لو خرجت عن حدودها الإنسانية" فكانوا يشيعون بين الناس أن دعوة لوط هي سعي نحو السلطة وليست ل {تطهير المجتمع} وإنقاذه، فهم يخافون على مصالحهم التي اعتاشت على نجاسة قومهم، فكيف بهم يسمحون لأهل الطهارة بالحديث علنا عنهم، أوليسوا يعلمون في قرارة أنفسهم رجس ما يفعلون وطهارة قوله، فلماذا العناد؟؟

لم يعبأ بدعايتهم السخيفة وبات يؤكد دوماً لقومه *(وما أسألكم عليه من أجرٍ، إن أجري إلا على رب العالمين)*.

لكأني به في جلسته تلك وقد تهاطلت الدموع من عينيه حين تذكر تهديداتهم المتكررة *(لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين)*... لم يكن يتخيّل -ولو للحظة- أن يحاكمه قومه وينفوه بتهمة: *الطهارة، نعم الطهارة...* لذا ظل مصرّاً على دعواه الأخلاقية، لعلمه أن الأمم تبقى ما بقيت أخلاقها، فهي تنبع من تصورها عن الكون والحياة، وما دامت تدين لله بالوحدانية ولشرعه بالمعيارية ولحكمه بالعدالة: صمدت وثبتت أمام عواصف الزمان ، وما إن تخلت عنها إلا سقطت بأضعف المسالك.

ولكن، أبت النجاسة أن تفارق أهلها، فقد عقدت محكمة العهر في النادي صباح اليوم جلستها المشؤومة للنظر في أمر لوط...
وبعد المداولات، كان قرارهم: *(اخرجوا آل لوط من قريتكم)* والتهمة *(إنهم أناس يتطهرون)*... نعم *(أناس يتطهرون)*، فلقد أصبحت الطهارة تهمة والنجاسة حرية شخصية، فلم تتوقف وسائل إعلامهم الرخيصة ومؤتمراتهم العاهرة تحريضاً عليه وعلى دعواه منذ زمن، فلقد حارب نجاستهم بكل طهارة وعفة، وقاد حركة إصلاحية سلمية لم تترك لهم مجلساً أو بيتاً إلا خاطبتهم به، وهاهم اليوم يحتفلون بما استطاعوا بتطبيلهم قلب الحقيقة، وركس الفطرة.

ما زالت كلمات خليل الله إبراهيم ترن في أذنيه حين حدثه عن الله أول مرة، وكيف نجاه من النار حين قذفه قومه بها *(وقال: إني مهاجرٌ إلى ربي، إنّه هو العزيز الحكيم)*، فعلم أن هذا هو حال المصلحين دوماً.

وهو على حاله تلك -وقد غابت الشمس-، سمع طرقا للباب في وقت غير معتاد، فإذا هم ضيوف من خارج القرية -كأنهم رجال سيّارة مروا يطلبون ضيافة أو مأوى حتى الصباح-... نظر إليهم لوط، وتذكر قومه الأنجاس، وتذكر عيونهم التي تراقب بيته لمعرفة تحركاته ومن يقترب منه، لذلك *(سيء بهم وضاق بهم ذرعا، وقال: هذا يومٌ عصيبٌ)*، فأدخلهم بسرعة...

لم يتوقع أن الخيانة ستكون من بيته، بل من أقرب الناس إليه: *امرأته*، فهي تشبه أمرأة نوح *(كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما)*، وخرجت من لحظتها في جنح الظلام تطلب النادي وتخبر الفجرة بوجود هؤلاء الضيوف، فهم: أغراب، حسان الوجوه كالملائكة -وهم كذلك-، تظهر عليهم علامات النعمة.

بدأهم بسؤالهم *(إنكم قوم منكرون)* فهو لا يعرفهم، وليس بأيديهم بضاعة تدل على مسير تجارة أو سفر، فأجابوه *(بل جئناك بما كانوا فيه يمترون، وأتيناك بالحق وإنا لصادقون)* فاستغرب، فهم يعرفونه جيداً، ويعرفون حاله مع قومه ودقة اللحظة والموقف، فأكملوا رسالتهم *(فأسر بأهلك بقطعٍ من الليل واتبع أدبارهم، ولا يلتفت منكم أحدٌ، وامضوا حيث تؤمرون)*، عندها علم أن الله استجاب إليه حين دعاه قبيل المحاكمة *(رب انصرني على القوم الفاسقين)*، فكان حكم الله أنفذ *(وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوعٌ مصبحين)*.

ما أن بدأت أسارير لوط تنفرج، حتى *(جاءه قومه يهرعون إليه)* أي يدفعون بدافع الشهوة المقيتة *(ومن قبل كانوا يعملون السيئات)* وباغتوه في لحظتها قادمين للتحقيق بأمر الضيوف الكرام، فخرج لهم مستنكراً *(إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون، واتقوا الله ولا تخزون)*، من سفالتهم قالوا: *(أولم ننهك عن العالمين؟؟)* ونفرض عليك الإقامة الجبرية ومنعنا عنك أي تواصل، فمن هؤلاء؟؟

نظر إليهم لوط فرأى في أعينهم شهوة غامرة، فذكرهم *(يا قوم هؤلاء بناتي)* أي زوجاتكم اللاتي في حجوركم أو جنس النساء عموماً *(هن أطهر لكم)* بكل ما تعني به معاني الطهارة، *(فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي، أليس منكم رجلٌ رشيدٌ)*، فقالوا -وبكل وقاحة- *(لقد علمت ما لنا في بناتك من حقٍ، وأنت تعلم ما نريد)*، عندها أُسقط في يد لوط، فلم يتوقع أن الكفر والنجاسة إذا تلبست بالنفس البشرية أخرجتها عن كل معايير العقل والمنطق ، فقال متحسرا *(لو أن لي بكم قوة، او آوي إلى ركنٍ شديدٍ)*، عندها قال له الضيوف من الداخل *(يا لوط... إنا رسل ربك، لن يصلوا إليك، فأسر بأهلك بقطعٍ من الليل ولا يلتفت منكم احدٌ إلا امرأتك، إنه مصيبها ما أصابهم، إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريبٍ ؟؟)*... فرددها لوط مرارا، وكأنه يخاطب العالم كله *(أليس الصبح بقريب)*، عندها تيقن أن *(الله قد حكم بين العباد)*.

خرج وأهله في وقت السحر، فهو الوقت الذي يغفل عنه الغافلون، وتتوق نفوس الصالحين لمناجاة ربه، *(إلا امرأته)*، فهي عجوز فضلت الخيانة على الأمانة، والنجاسة على الطهارة، *(كانت من الغابرين)*، فما ينبغي لها أن تخرج مع لوط وتلحق بركب الناجين.

وبدل أن يأتي الصبح - كعادته - بالبشرى، جاءهم بأمر الله *(فجعلنا عاليها سافلها)* فأُهلك من بها، *(وأمطرنا عليهم حجارة من سجيلٍ منضود، ٍمسوّمةً عند ربك)* فلم يفلت أحد من العاقبة بل كان لكل منهم نصيبه المحدد، *(وما هي من الظالمين ببعيد)*.

نعم... *(ساء صباح المنذرين)* فكان جزاءهم من جنس ذنوبهم، فمن قلب معاييره الأخلاقية والاجتماعية وعاث فساداً عوقب بانقلاب حياته نكداً وآخرته جحيماً تلظى ، *(والمؤتفكة أهوى، فغشاها ما غشى، فبأي آلاء ربك تتمارى؟؟)*.

وهذه العقوبة سنة من سنن الله، *(وما هي من الظالمين)*... أيا كانوا... متى كانوا... كيفما كانوا... *(ببعيد)*.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

الحكمة من الزلازل

يؤمن المسلم بأن في كل أفعال الله حكمة بالغة؛ سواء أدركها أو أدرك بعضها أم …