قال تعالى: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون، الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} [سورة الأنفال:65-66].
روى ابن كثير في تفسير هذه الآيات عن ابن عباس قوله (كتب عليهم ألا يفر عشرون من مائتين، ثم خفف الله عنهم، فقال:( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً) فلا ينبغي لمائة أن يفروا من مائتين.
ورُوى عن ابن عباس قوله أيضا (لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين، وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين، ومائة ألفا، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى فقال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) الآية، فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدو لهم لم ينبغ لهم أن يفروا من عدوهم، وإذا كانوا دون ذلك، لم يجب عليهم قتالهم، وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم).
وفي غزوة مؤتة لما أخذ الراية زيد وقتل، أخذها جعفر فقتل، ثم أخذها ابن أبي رواحة فقتل، ثم أخذها خالد بن الوليد، فأظهر شجاعة وبسالة نادرة، وغير خطط المعركة، وأحدث في جيش الروم، ثم انسحب بجيشه إلى المدينة.
فلما جاء المدينة، قال لهم بعض أهل المدينة: أنتم الفرار.
فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم: بل هم الكرار، أنا فئتكم وفئة المسلمين.
وفي كلامه هذا صلى الله عليه وسلم إشارة إلى قول الله تعالى الذي ورد في بداية المقال.
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ما فعله خالد بالفتح، حيث قال في حديثه الذي رواه البخاري: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذ الراية ابن أبي رواحة فأصيب، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم).
من هذه النقول التي نقلناها؛ قرآناً وسنةً وسيرةً، يتضح لنا جليا أن الله شرع الانسحاب من المعارك لفريقه المؤمن المجاهد إذا كان العدو غالبا عليهم، ويكون الانسحاب حينها لالتماس أحد سببين، إما للتعديل في الخطط والتكتيك، أو من أجل التحيز لفئة للاستنصار والتقوي بها.
الله شرع الانسحاب من المعارك لفريقه المؤمن المجاهد إذا كان العدو غالبا عليهم، ويكون الانسحاب حينها لالتماس أحد سببين، إما للتعديل في الخطط والتكتيك، أو من أجل التحيز لفئة للاستنصار والتقوي بها
ولذلك فإن قولة شيخ المجاهدين عمر المختار: (نحن قوم لا نستسلم، ننتصر أو نموت)، هي كلمة منضبطة إذ تتحدث عن المعارك الكبرى بنهاياتها وتمام جولاتها.
أما إذا كان الحديث عن جولة هنا أو جولة هناك، فإن الكلمة الأكثر انضباطا أن نقول: (نحن قوم لا نستسلم، ننتصر أو ننسحب، لنعد العدة لجولة أخرى).
في معركة الحق والباطل الدائرة على أرض مصر، بين الإخوان المسلمين وأنصارهم وشرعيتهم، وبين الانقلاب العسكري وأذنابه، تنسحب أحكام الإسلام في المعارك عليها، حتى وإن كانت معركة بغير قتال، فإن لأحكام الإسلام ظلالاً تظلل الكثير من المساحات الشاسعة بجانب مساحة الحكم المقصودة والمحددة .
لأهل الحق والشرعية أن ينسحبوا من معركتهم مع الباطل وأحزابه، إذا تيقنوا أنهم أمام عدو يزيد عليهم بأضعاف أضعاف قوتهم، ولهم حينها أن ينسحبوا للتخطيط والتكتيك من أجل العودة لجولة أخرى، بل لجولات وراء جولات.
ومن الممكن حينها أن ينحازوا لفئة من الشعب يعملوا على إيقاظهم من غفلتهم، وزيادة وعيهم وفاعليتهم، فإذا ما عادوا لجولة أخرى، كان هؤلاء هم الفئة التي انحازوا إليها، والتي سيجدون منها النصرة والعون.
ليس من المقبول، لا شرعا ولا عقلا، أن يستمر القوم في معركة، اليقين فيها أنها معركة خاسرة، أو جولة خاسرة بتعبير أدق.
ليس من المقبول، لا شرعا ولا عقلا، أن يستمر القوم في معركة، اليقين فيها أنها معركة خاسرة، أو جولة خاسرة بتعبير أدق
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد وجيشه (بل هم الكرار)، وقال (وأخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم).
فالانسحاب من المعارك فتح من الله لمن يحسنه ويجعله على أحسن صوره، وأحسن صوره أن يكون انسحاباً بأقل الخسائر، وأن يكون في وقته لا يتقدم عنه ولا يتأخر، وأن يكون انسحاباً تكتيكياً يتبعه استعداد وتخطيط من أجل العودة أكثر قوة ومنعة.
في معركة حركة المقاومة الإسلامية حماس مع الكيان الصهيوني في حرب غزة الأخيرة أو قبل الأخيرة، ولما قبلت حماس بوقف الاقتتال، ولما أن لمزها اللامزون في ذلك، قال الشيخ يوسف القرضاوي معبرا عن الحالة (إنها استراحة محارب).
ومن الحمق أن يبقى مجاهداً مجتهداً مجهداً، فالإجهاد يذهب بالاجتهاد، ولا يبقى معه إلا الخور والضعف، وتكون حينها الهزيمة الساحقة أقرب ما تكون؛ الهزيمة الساحقة التي لا تقوم بعدها قائمة.
وإن الأمر ليصل إلى حد الإثم الشرعي، عندما تقدم قيادة حركة إسلامية على البقاء في جولة من جولات الصراع، ولم يعد لها من أدواتها شيء، وكل الذي يحدث فيها قتل وتشريد وأسر من العدو الباطش، لتعيش الحركة وأفرادها في مأساة أسطورية.
إن ما يرضي الله حينها، ليس الصبر الأسطوري مع البقاء في أرض المعركة، إنما الذي يرضي الله أن تحافظ القيادة على بقاء ما تبقى من حركتها وأفرادها، بعد أن تيقنت من الهزيمة، وما عاد هناك جديد .إن الأمر ليصل إلى حد الإثم الشرعي، عندما تقدم قيادة حركة إسلامية على البقاء في جولة من جولات الصراع، ولم يعد لها من أدواتها شيء، وكل الذي يحدث فيها قتل وتشريد وأسر من العدو الباطش، لتعيش الحركة وأفرادها في مأساة أسطورية
إن الشعار الأصوب لأهل الحق والإيمان، المجاهدين المخلصين العقلاء (نحن قوم لا نستسلم، ننتصر أو ننسحب، لنستعد لجولات أخرى).