أحمد خالد توفيق.. كيف صنعت المصداقية تجربة شبابية ناجحة؟!

الرئيسية » بصائر الفكر » أحمد خالد توفيق.. كيف صنعت المصداقية تجربة شبابية ناجحة؟!
أحمد-خالد-توفيق

فتحت التظاهرة التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الإلكترونية الأخرى، بعد رحيل الأديب والكاتب المصري، الدكتور أحمد خالد توفيق، مجالاً مهمًّا للحديث عن قضية هي من الأهمية بمكان في الوقت الراهن على مستوى الحركة الإسلامية، والحركات الإصلاحية والتجديدية بشكل عام، وهي قضية صناعة الوعي، وكيفية تحقيق الانتشار للفكرة على أوسع مدىً ممكن.

وتعود أهمية تجربة الأديب الراحل إلى أكثر من عامل، ساعدت على تحقيق هذه الشعبية الكاسحة، وهذا التأثير الكبير، الذي تجاوز كونه يكتب أدبًا –أيًّا كان نوعه– إلى أن تحول إلى أحد صُنَّاع الرأي العام، وموجِّهِيه، وبالذات في شريحة عمرية مهمة، مثل شريحة الشباب، والتي تمثل غالبية الهرم السكاني للبلدان العربية والناطقين بالعربية في المهاجر حول العالم بشكل عام.

من بين هذه العوامل، هو التجديد الذي أتى به، بالإضافة إلى موهبته ككاتب، وأسلوبه الذي كان يختلف كثيرًا عن الأسلوب النمطي الذي اتبعه سابقوه من كُتَّاب روايات الجيب، مثل الأستاذ محمود سالم، أو الدكتور نبيل فاروق.

إلا أن هناك عاملَيْن من وجهة نظري ساعدا توفيق أكثر من غيرهما من العوامل على الحصول على مثل هذه الشعبية، وتحقيق كل هذا التأثير الذي شهد له به حتى مَن لم يقرأوا لهم، وخصومه السياسيون من الإعلاميين المحسوبين على الحكم في مصر على سبيل المثال.

العامل الأول، هو تقديمه أدبًا رفيعًا، خاطب الشباب بقدر من الجدية، وحملهم على الإعلاء من شأن النظرة إلى أنفسهم، والتأكيد على قيمتهم.

فهو لم يخاطبهم بذات الخطاب الساذج الطفولي، ولا بخطاب يتجاوز العقل أو الواقع المستَجَد في عالمنا العربي؛ حيث النضج المبكر للأجيال الجديدة الصاعدة، في ظل ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية متفاعلة، ودخولنا في العالم العربي، والإنسانية كافة، إلى عصر الرقميات والإنترنت، والتي قادت إلى انسياح المعرفة – بمختلف اتجاهاتها وفروعها، وبإيجابيها وسلبيها – إلى أوسع نطاق ممكن، والتي لم تجعل هناك "طفلاً" و"شابًّا" بالمعنى القديم، الذي يفترض فيه السذاجة أو عدم المعرفة.

وفي علم النفس والعلوم السلوكية والتربوية، من المعروف أن الإنسان يكتسب احترام من يخاطبه، إذا أشعره بأنه على قدر كبير من الأهمية، وأخذه بالجدية اللازمة، وهو توجيه مهم يقدمونه في المجتمعات المتقدمة في نصائحهم للآباء والأمهات الجُدُد.

في علم النفس والعلوم السلوكية والتربوية، من المعروف أن الإنسان يكتسب احترام من يخاطبه، إذا أشعره بأنه على قدر كبير من الأهمية، وأخذه بالجدية اللازمة

ارتبط بذلك، ارتقاء أحمد خالد توفيق بهذه النوعية من الأدب، وخاض في أمور عديدة لم تكن مطروقة من قبله، وبصورة فيها الكثير من التجديد، مثل المزج المقنن السليم بين أدب الخيال العلمي، والأدب السياسي، والأدب الاجتماعي، مستحضرًا في ذلك أفضل تقنيات الكتابة الأدبية في الغرب والعالم الخارجي، جاعلاً في رواياته جرعة ثقافية ومعلوماتية ضخمة.

وهو ربما في ذلك تلميذ نجيب لأستاذ أكبر منه سنًّا وأقدم تجربةً، وهو الأستاذ محمود سالم، صاحب سلسلتَيْ "المغامرون الخمسة"، و"الشياطين الـ13"؛ حيث إنه، وبالمقارنة مع غيره ممن كتبوا لمرحلة الأولاد والبنات، والشباب؛ نجد ارتقاءً كبيرًا من جانب سالم بالأسلوب والمحتوى، ارتقى بدوره بمدركات مَن قرأوا له في هذَيْن المرحلتَيْن السِّنِّيتَيْن، وجاء، بالذات في سلسلته "الشياطين الـ13"، بالكثير من السبق لمبتكرات علمية حديثة في مجال الاتصالات والسيارات والفضاء، ظهرت بالفعل على أرض الواقع، بعد أن تكلم عنها بسنوات طويلة.

كذلك اتسمت أعمال أحمد خالد توفيق بعمق فكري وفلسفي ناقش فيه مختلف القضايا السياسية والإنسانية العالمية، من خلال تجارب معتبرة ، بما في ذلك تجارة الأدوية المحرمة وجرائم القوى الدولية في مجال الحرب البيولوجية ومعاناة الفقراء، وغير ذلك، وكل هذا حقق الهدف السابق المشار إليه، وهو إشعار القارئ بأنه يأخذه على محمل الجد، ويرتقي به.

وأتى بهذا كله بأسلوب بسيط وسهل، ومُحكَم وفق قواعد النقد الادبي، في ذا الآن، جعل كتيباته بمثابة ركن ثقافي جذاب للغاية.

العامل الثاني الأهم في توسيع نطاق تجربته وتأثيره؛ هو مصداقيته والاتساق الكامل بين ما يكتب وبين ما يفعل ويتبناه من مواقف.

العامل الثاني الأهم في توسيع نطاق تجربته وتأثيره؛ هو مصداقيته والاتساق الكامل بين ما يكتب وبين ما يفعل ويتبناه من مواقف

فهو ككاتب كانت له معايير موضوعية لا يمكن الخلاف عليها أخلاقيًّا أو قيميًّا كان يقيس عليها مختلف الأمور، وطبَّق هذه المعايير في كل ما كان يكتبه، وطبقه على نفسه في حياته، بخلاف أدباء وكُتَّاب آخرين؛ كانوا يكتبون شيئًا، وتبنونه نقيضه في مواقفهم السياسية وحياتهم الشخصية والعامة.

فهو يعلي من شأن قيمة الإنسان، ويرفض العنف أيًّا كانت مظاهره، وأيًّا كان مرتكبه، ويرى في العقل أهم ما وهبه الله تعالى للإنسان، ويدعو إلى السلام العالمي، وإلى التجرُّد والتركيز على الأدوار التي ينبغي على الإنسان أن يقوم بها من دون انتظار التكريم أو الأجر.

كما كان يرفض الاستبداد والديكتاتورية، وكذلك التجهيل والتلاعب بعقول البسطاء من خلال أدوات القوة الناعمة التي تملكها الحكومات المستبدة في عالمنا العربي للسيطرة على الجموع ، وينفي مختلف الخرافات التي تظهر من آنٍ لآخر في الإعلام الحكومي ومَن والاه.

هذه الأمور التي تبناها، طبقها على ذاته في الواقع بشكل حرفي، فهو لم يكن منتمٍ سياسيًّا، ورفض عروضًا حتى من خصوم النظام الحاكم في مصر، لمهاجمته، لأن هذه العروض أتت من قنوات وأطراف محسوبة على جماعات وقوى سياسية بعينها، رأى أنه لو ارتبط بها؛ سوف يحول تجربته من السياق العام لها، إلى تجربة حزبية تضيِّق من حريته، وقد تقود إلى خدش مصداقيته أمام جمهوره ومَن يخاطبهم.

كما أنه كان يهتم بالرسالة أكثر من الشهرة؛ فكان مُقِلاًّ في ظهوره الإعلامي، وكثيرًا ما رفض عروضًا بالحضور إلى قنوات فضائية للتسجيل معه أو ندوات يخاطب من خلالها الجمهور.

وفي أزمات عديدة وقعت بين المؤلفين الذين كانت تتعاقد معهم المؤسسة العربية الحديثة التي أصدرت الغالبية العظمى من كتبه والسلاسل التي كتبها، نأى بنفسه تمامًا عن الخوض في صراعات قضائية وقانونية على حقوق الملكية الفكرية، وفضَّل الاحتفاظ بمبادئه على المادة؛ حيث كان يؤكد – أيضًا – أنه يكتب لأجل أداء رسالة وليس لمجرد مكسب مالي مهما كان.

وحتى وفاته؛ كانت مصداقيته واضحة؛ فهو توفاه الله تعالى في مستشفىً حكومي مصري، وصغير السن نسبيًّا – 55 عامًا – فلم يكن يملك من المال ما يمكِّنه من العلاج في مستشفىً خاص ناهينا عن السفر للعلاج خارج الوطن.

في كتاباته، وفي مواقفه السياسية أيضًا؛ وضع يده على الوتر الحساس للشريحة التي استهدفها وكان يخاطبها، وهم الشباب، فكان يتكلم بلسانهم ويعبر عنهم بمنتهى الدقة، ولا يشوب ذلك أية شبهة نفاق أو مجاملة، وكان ذلك عاملاً من عوامل رفضه الاستقطاب السياسي بأية صورة.

وضع توفيق يده على الوتر الحساس للشريحة التي استهدفها وكان يخاطبها، وهم الشباب، فكان يتكلم بلسانهم ويعبر عنهم بمنتهى الدقة، ولا يشوب ذلك أية شبهة نفاق أو مجاملة، وكان ذلك عاملاً من عوامل رفضه الاستقطاب السياسي بأية صورة

فهو ينتقد العنف باسم الدين، وفي ذات الآن كان يعتبر ما جرى في رابعة؛ بمثابة جريمة ضد الإنسانية، وكان يدعم الاستقرار في مصر؛ لكنه كان معارضًا شرسًا للفساد والاستبداد والتخلف في مصر والعالم العربي والعالم الثالث، وكان يتبنى قضايا المواطنين الفقراء المرهقين بأعباء الحياة، وهكذا، مما منحه مصداقية هائلة في أوساط متابعيه، وجعلهم من ختلف الشرائح، حتى من بين مؤيدي النظام الحالي في مصر.

إن هذا الحديث ليس محاولةً لتصوير أحمد خالد توفيق في صورة ملائكية مثالية؛ فكل ما سبق منبني على أدوات قياس دقيقة، حتى بالمعيار الإحصائي؛ حيث يُعتبر من أكثر الأسماء التي طبعت ونشرت، وحظيت بجماهيرية في العقود الأربع الأخيرة على مستوى الناطقين بالعربية.

كما أن تبيان هذه العوامل التي حققت له شهرته، وجعلته يلقى كل هذا التكريم بعد وفاته؛ إنما هي من الأهمية بمكان أن تتم دراساتها من جانب الحركات الإصلاحية والتجديدية من أجل فهم محددات القبول الأهم لدى الشباب، وكيفية صناعة الوعي بأساليب احترافية تحقق الأثر المنشود، وتسمح بالانسياح في أروقة أفكار وعقول الشباب والمجتمعات بشكل عام.

فخلال العقود الماضية؛ شهدت المطابع والحالة الثقافية في العالم العربي بعض التجارب غير الموفَّقة في مجال الأدب الإسلامي، وخصوصًا أدب الشباب، وكانت تحاول أن تقدم البديل الإسلامي لأدب الجيب، الذي هو من أكثر وسائل التثقيف والقراءة رواجًا في عالمنا المعاصر، بشكل لا يفوقه فيه سوى الإنترنت في الوقت الراهن، ويتفوق حتى على الوسائط الرقمية الأخرى، مثل نسخ الـ"pdf" واسطوانات الكتب الأصلية التي تصدرها بعض دور النشر لمطبوعاتها.

ويعود فشل هذه التجارب – وفشل الكثير من التجارب ذات الطابع الحركي الإسلامي في مجال القوة الناعمة بشكل عام – إلى تبني آليات تقليدية في العمل، وفي المحتوى، بشكل تجاوزه الوقت، فإما أننا أمام أعمال تتبنى خطابًا مثاليًّا لا يتفق مع التحولات الفكرية والمجتمعية الهائلة التي حصلت، أو خطابًا ساذجًا غير احترافي، أو لا يراعي حتى في رسومه مطلبات الجذب الضرورية في عالم يملؤه "ديزني" ورسومه.

وفي الأخير؛ فإنه من الأهمية بمكان العمل على دراسة تجربة توفيق، ومن قبله محمود سالم، وأسماء أخرى حققت ذات الانتشار والإنجاز الفكري وصارت لهم القاعدة الشعبية التي عاشت لعقود طويلة .

فيجب فهم لماذا خلدت أعمال هؤلاء وحققت كل هذا التأثير؛ حيث لا يزال محبو محمود سالم بالملايين في طول وعرض العالم العربي، ومن المرجح أن تعيش تجربة توفيق أطول من ذلك، في ظل طبيعتها المتمايزة، وظهورها في عصر الوسائط الرقمية التي سهلت من تداول وقراءة المادة المكتوبة والاحتفاظ بها، بخلاف الماضي؛ حيث أكثر من نصف تراث الأستاذ محمود سالم مفقودًا على سبيل المثال.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …