ربما كان وصف (مهنة المتاعب) أصدق وأقرب ما قيل عن عالم الإعلام الحقيقي، فمن يدخل هذا العالم يعرف سلفاً أن حياته ستكون في خطر في أي لحظة، خاصة إن كان هذا الإعلامي يعمل وفق المبادئ الدينية الانسانية والوطنية ولا يرهن عمله لـــ(من يدفع أكثر؟).
في حالتنا الفلسطينية وصراعنا مع العدو، فإن العمل الإعلامي يصبح أكثر تكلفة لأن العدو الصهيوني يحقد بلا توقف ويطلق الرصاص بلا خوف من نقصانه، المهم أن يمنع الآخر من أن يتنفس حرية وكرامة.
ولأن الإعلام نصف المعركة فقد أدرك الاحتلال أن الصورة أكثر صدقاً في نقل المشاعر من كل الكلمات، فقد تُغير مزاج الرأي العام ضده فيتعكر مزاجه، لذا حرص على عدم نقل الصورة إلا التي تمجد أخلاق جيشه وتضفي عليه هالة من القداسة والطهارة، فاستهدف الإعلام الفلسطيني المقاوم بمختلف تصنيفاته، كي لا يساهم في نقل معاناة الشعب الفلسطيني إلى العالم الخارجي، وهذا ليس عملاً جديداً عليه، فتاريخ العدو حافل باغتيال أصحاب السلطة الرابعة لأنه يعرف أن أبناءها يستطيعون توجيه ضربات قاضية له خارج حلبة المصارعة، ويكشفون قدراته الهشة وقذاراته الضخمة، ويفضحون للجمهور وجهه القبيح، وبأن الذي مارس دور الحَملَ سنين طويلة، هو في حقيقة الأمر وحش، ليس في قلبه للبراءة مثقال ذرة من مشاعر، وليس له في عالم الأخلاق من خلاق.
تاريخ العدو حافل باغتيال أصحاب السلطة الرابعة لأنه يعرف أن أبناءها يستطيعون توجيه ضربات قاضية له خارج حلبة المصارعة، ويكشفون قدراته الهشة وقذاراته الضخمة، ويفضحون للجمهور وجهه القبيح
ياسر مرتجى، آخر شهداء السلطة الرابعة في غزة والذي استشهد بعدما أصيب برصاصة قناص في البطن أثناء تصويره فعاليات جمعة الكوشوك على الحدود الشرقية لبلدة خزاعة شرق خانيونس، وأدت الرصاصة بحسب المصادر الطبية إلى تهتك في الأعضاء الداخلية، لينضم ياسر إلى قافلة شهداء الإعلام المقاوم.
ورغم أن القوانين الدولية تعطي الإعلامي حق الحماية في أثناء الحروب، ورغم أن ياسر مرتجى كان يرتدي زيه الإعلامي إلا أنه لم يشفع له، ولم يمنعهم من قتله، وهنا نتأكد أن قتل الاحتلال لياسر لم يكن قتلاً جسدياً له، بل هي رسالة لكل من يفكر في نقل جرائم الاحتلال ومعاناة الشعب، بأنك في مرمى النيران، ويؤكد أن الاحتلال لا يفرق بين حجر وشجر وبشر، فكل (الآخر)عند الصهيوني حلال(دمه وماله وعرضه).
إن الإعلامي الحقيقي هو الذي يقدم نفسه قرباناً للحقيقة ويضعها على موائد صناع القرار داخلياً وخارجياً، وينقل همجية العدو في قتل الأطفال والنساء وهدم البيوت على ساكنيها دون رحمة، وابداعات المقاومة في الدفاع عن شرف الأمة، ورغم أنه إنسانٌ ويتأثر بالأحداث، إلا إنه كان جسراً وجسوراً يؤدي رسالته بكل إتقان، فلم تزحزه قسوة مناظر الأشلاء عن نقلها للعالم، وكتم غضبه وحزنه بداخله، كي يوصل للعالم صوت الشعب الذي يضحي دون تذمر، ويقف خلف المقاومة بكل بسالة.
وإن غزة تثمن دور الإعلاميين الأحرار الذين واصلوا العمل ليلاً نهاراً، فكانوا كالجنود على الحدود، منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، ونقول لهم بارك الله في جهودكم، فأنتم مصباحنا الذي ينير لنا الطريق إذا أدلج الليل، والمرآة التي تنقل للعالم صورتنا الحقيقة، بأننا أصحاب حق ولا نعتدي على أحد، ولولاكم لماتت أجساد أهل غزة دون أن تستيقظ ضمائر أحرار العالم.