لقد انتشر الإلحاد في حياتنا المعاصرة بشكل مخيف، وأصبح يمثل ظاهرة تستدعي البحث في الأسباب والدواعي، والبحث عن الوقاية والتحصين، ثم البحث عن العلاج والدواء.
لقد كنت أتحدث منذ زمان مع البعض عن التنصير ومخططاته في بلاد العرب والمسلمين، فقلت لهم حينها جازمًا: إن التنصير لا يمثل خطرًا ولن يمثل في بلادنا العربية خاصة؛ وذلك لأن الإسلام متمكن بروحه من عموم الناس، والتنصير لا يعتمد في انتشاره على منطق عقلي أو هدي سماوي، وإنما الأمر لا يعدو الإغراء المادي والجنسي، فأي تنصير في أي مكان لا يقوم إلا على هذين الإغرائين، وخصوصًا إذا ما كان ذلك التنصير في بلاد المسلمين.
والتنصير مع ذلك يُخشى منه في البلاد الإسلامية غير العربية، وخصوصا الإفريقية منها، تلك البلاد التي تعيش في الفقر والجهل، فيدفعها الفقر إلى اللهث وراء الإغراء المادي لعصابات التنصير، ولا يحميها من هذا السقوط علمٌ أو معرفةٌ. ولذلك لا خوف من التنصير في بلاد العرب المسلمة، ولكن الخوف كل الخوف من الإلحاد؛ من رفض الأديان بالكلية.
لا خوف من التنصير في بلاد العرب المسلمة، ولكن الخوف كل الخوف من الإلحاد؛ من رفض الأديان بالكلية
فالإلحاد هو موقف عقلي اعتقادي، لا يسعى وراء إغراء مادي أو جنسي. وإن كنا نسمع أن هناك بعض الجهات والعصابات التي تفعل ذلك، فتغري الشباب بالجنس والمال، من أجل اعتقاد اللادين، والدعوة إليه ونشره.
في العموم، الإلحاد موقف اعتقادي عقلي، ليس وراءه إغراء مادي أو جنسي.
ولكن السؤال: هل الدافع وراء الإلحاد_ الذي انتشر كثيرا في حياتنا المعاصرة _ التفكير العقلي والاستدلال المنطقي، أم أن الأمر له أسباب ومنطلقات أخرى؟
بعيداً عن فكرة الإغراءات المادية والجنسية، يظهر جلياً أن الإلحاد هو اضطراب نفسي وخوار روحي أكثر من كونه موقفاً عقلياً ومذهباً اعتقادياً.
كان لي أحد التلامذة الذين تتلمذوا على يدي وعلى يد غيري في مجال الفكرة الإسلامية والمشروع الإسلامي.
كان شابا ملفتاً، حافظٌا لكتاب الله منذ صغره، وكذلك صاحب إمكانيات عقلية مبهرة، جعلته الأكثر تفوقاً بين قرنائه دائماً، حتى انتهى من المرحلة الثانوية بتفوق كبير، ودخل على أثرها كلية الطب.
كان هذا الفتى منذ معرفتي به صغيرًا مضطرب النفس، عنده عقد نفسية كبيرة.
كان أشبه الناس بي، حتى أننا بعد اطلاعنا بعد ذلك على ما يعرف بعلم (أنماط الشخصية)، وجدنا أننا نحمل نفس الشخصية بتفاصيلها، وهي شخصية تسمى (المستشار)؛ شخصية نابهة قيادية عاطفية، وبها الكثير من الصراع النفسي والعقد النفسية.
من أول يوم تعرفت فيه على الفتى قلت: هذا أنا، بكل تفاصيل العقل والروح والنفسية.
ولقد عشت ذلك الاضطراب النفسي والخواء الروحي والجدل العقلي في مرحلة مبكرة من حياتي، غير أن الفارق بيني وبين ذلك الفتى، أن الأمر لم يستمر معي، وعافاني الله منه منذ دخولي للجامعة، أما هو فاستمر الأمر معه، وبل وزاد مع دخوله الجامعة، حتى كانت الفاجعة، وأعلن الفتى إلحاده، وما يزال يعلنه، بل ويدعو إليه.
ما زلت ألتقيه من حين لآخر على فترات متباعدة، فإذا جلست معه حاورته في آخر قناعاته، منتظرًا منه أن يقول لي أنه رجع إلى إيمانه، غير أنه ما يزال مصرًا على موقفه، بل ويدعوني أنا وغيري إلى اعتقاد ما يعتقده، ويجزم لنا أننا سنذهب حيث ذهب ولو بعد حين.
الأمر واضح جلي لي منذ زمان، الأمر عنده ليس عن قناعات عقلية وفكرية مجردة، الأمر ليس أكثر من اضطراب نفسي وخواء روحي أحدث اضطرابًا عقليًا وفكريًا.
لا يترك الإيمان ويذهب إلى الإلحاد عقل سليم، أبسط تفكير عقلي ومنطقي يقطع بوجود قوة خالقة ومسيطرة وراعية لهذا الكون.
لا يترك الإيمان ويذهب إلى الإلحاد عقل سليم، أبسط تفكير عقلي ومنطقي يقطع بوجود قوة خالقة ومسيطرة وراعية لهذا الكون
كان يناقشني في بداية الأمر حول أن الحياة قد وُجدت صدفة، فلما أن ناقشته وغيري في هذه النقطة، وفندناها له، وأسقطناها من حسابات أي عقل واع، ذهب مؤخرًا إلى القول باحتمالية أن تكون هناك حضارة سابقة علينا هي التي أوجدتنا، وما نحن إلا حقول تجارب لها، أو أننا نعيش في حياة افتراضية كبرامج الحاسوب وأفلام الرسوم المتحركة.
الخلاصة أنه بدأ لا يجزم بفرضية الصدفة، ويضع احتمالاً لوجود قوة أخرى صانعة لنا، لكنها ليست إلهًا في نظره، فإما أن تكون حضارة سابقة لنا، وإما أن تكون كائنات معاصرة لنا متقدمة ومتطورة، ونحن برامج افتراضية لها.
ثم يجزم لنا في النهاية أنه (لا يدري)، وأن كل شيء وارد، وأن (ربما) هي أصدق كلمة لأي افتراض لتفسير الحياة والكون. ولهذا لا عقل ولا منطق لمن يدعون إلى الإلحاد، وإن الإلحاد ليمثل في رأيي أغبى فكرة وقع عليها العقل البشري في تاريخه.
لا عقل ولا منطق لمن يدعون إلى الإلحاد، وإن الإلحاد ليمثل في رأيي أغبى فكرة وقع عليها العقل البشري في تاريخه
لقد قرأت رسالة (لماذا أنا ملحد)، لـ(إسماعيل أدهم)، وهو أول ملحد مصري تقريبًا، فلم أجد فيها إلا اضطرابًا عقليًا ونفسيًا، حتى أن كاتبه قد انتهى به المطاف منتحرًا ولم يبلغ الثلاثين من عمره بعد.
وأشاهد كل فيديوهات (شريف جابر)، داعية الإلحاد الأشهر على مواقع التواصل، فلا أرى فيها إلا اضطرابًا عقليًا ونفسيًا.
وأشاهد كل لقاءات (أحمد حرقان) على شاشات الفضائيات، وهو أكثر دعاة الإلحاد ظهورًا عليها، فلا أرى إلا اضطرابًا عقليًا ونفسيًا، حتى يصل الأمر بي للدعاء له بالهداية والعافية، إشفاقًا على حالته.
ولقد قرأت كتاب (وهم الإله)، وهو أشهر الكتب العالمية الداعية إلى الإلحاد، لكاتبه الأشهر (ريتشارد دوكنز)، فما وجدت إلا هرطقة وجهلاً وغباء.
والأمر يختلف هنا بين هؤلاء الملحدين الغربيين وملحدي العرب المسلمين، فملحدو العرب المسلمين لا يعدو الأمر عندهم اضطرابًا نفسيًا وعقليًا، لأن بين أيديهم الحق الذي فطر الله الناس عليه، فلا يترك هذا الحق الأبلج الذي توقن به العقول وتطمئن إليه القلوب إلا باضطراب فيهما.
أما أهل الغرب المسيحيون وغيرهم، فهم غير مسلمين، يتدينون بديانات فيها من الخلل في توصيف الله وتوصيف كل المعتقدات ما يجعل الكفر بها واردًا بقوة، لراحة العقل والقلب من كل الاضطراب والخلل في هذه العقائد.
ولهذا فالإلحاد عند غير المسلمين وارد ومقبول عقلا، لأنه هروب عندهم من غموض وخلل واضطراب في العقائد إلى الكفر بها جميعا وإراحة العقل والقلب.
أما الإلحاد عند المسلمين، أهل العقيدة الصافية، والفطرة الإلهية السوية، فليس له إلا تفسير واحد؛ الخلل العقلي نتيجة الاضطراب النفسي.
الإلحاد عند غير المسلمين وارد ومقبول عقلا، لأنه هروب عندهم من غموض وخلل واضطراب في العقائد إلى الكفر بها جميعا وإراحة العقل والقلب، أما عند المسلمين، فليس له إلا تفسير واحد؛ الخلل العقلي نتيجة الاضطراب النفسي
لقد رأينا انتشارا للإلحاد في بلادنا في هذه الفترة الأخيرة التي تلت ثورات الربيع العربي والانقلابات عليها، وواضح تمامًا كم أحدثت هذه الثورات وما تلاها من أحداث قاصمة للظهور ومفجعة للقلوب ومذهبة للعقول، حتى أني جالست كثيرًا من الإسلاميين يقولون: اللهم ثبت إيماننا، والله إن الكفر لأقرب إلينا مما نتخيل.
الإيمان مذهب العقول السليمة، غير أنه هداية من الله ومنة منه، وهو يزيد وينقص، وينقص حتى يكاد يذهب، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: (اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين).
وكم نحتاج نحن إلى ذلك الدعاء والإضافة عليه: اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، واشف أنفسنا وأرواحنا وعقولنا من كل ما يذهب بها...اللهم آمين