لا تنجح فكرة إلا بالإيمان بها، بل اليقين أنها الفكرة الصحيحة، بعد التقلب بين أفكار كثيرة، والمقارنة بينها وبين التعايش بها، واختبارها واطمئنان قلبه يقيناً لها، فيفني حياته لها مختاراً.
حقيقة الإيمان:
قال الراغب: (أصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف).
وقال شيخ الإسلام: (فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد).
وقد عرف الإيمان بعدة تعريفات: فقيل: هو التصديق، وقيل: هو الثقة، وقيل: هو الطمأنينة، وقيل: هو الإقرار.
فلا معنى لفكرة بغير إيمان بها؛ إذ إن الإيمان هو الوقود المحرك للأفكار لتصير سلوكاً عملياً يتحلى به أولاً من ينادي بها، ثم التابعون الذين تنتقل لهم الطاقة الإيجابية المحركة للأفراد والمجتمعات والشعوب، حسب حجم الفكرة وأهميتها الاستراتيجية لتلك الشعوب.
والإيمان بالفكرة -سواء كانت الفكرة صحيحة أو خاطئة- كان هو المحرك الأول للبشرية منذ فجر الخليقة. فالمؤمنون بفكرتهم يموتون دونها.
وليست كل فكرة صحيحة، فقد يؤمن البعض بفكرة تنافي الإيمان، أو فكرة ترفع من شأن دنياه، ثم نجده يبذل في سبيلها كل ماله وقته، وأما إن كانت فكرة ربانية تمس العقيدة فللمؤمن بها شأن آخر!
آدم عليه السلام آمن بفكرة الخلود رغم عدم انشغاله بالقضية قبل أن يعرض عليه إبليس تلك الفكرة، وحين عرضها عليه اقتنع بها وتشبع وأحبها حتى صارت هواه فأنسته تحذير الله له من عدوه الذي رفض السجود له، فصدق إبليس الكذوب وأكل من الشجرة هو وزوجته.
قابيل آمن بفكرة أن من حقه أن يأخذ ما يريد بأية وسيلة، فقتل في سبيل تحقيق إرادته!
القليل الذي آمن مع نوح لم يتوقف إيمانهم عند حد نبوة نوح فحسب، بل آمنوا بفكرة بناء سفينة في صحراء جرداء لا ماء فيها يمكن أن تسير فيه! حتى صار تنفيذ الفكرة مصدر سخرية واستهزاء لكل من يمر بهم؛ إذ أين يسيرون الفلك؟ هل سيحملونها إلى الماء مسافات سفر، أم يحفرون بحراً بالصحراء، آمنوا بنبيهم، فصدقوا قوله بالعمل حتى ولو كان منافياً للعقل والمنطق المعروف، ومع هذا لم يتراجعوا -لإيمانهم- عن إكمال سفينة نجاتهم.
آمن إبراهيم عليه السلام، فجلس في النار غير عابئ بها، فهو قد فوض أمره كله لله وهو منجيه، فلا يطلب حتى من جبريل الذي تنزل ليعرض عليه أن يدعو الله له، فتكون حاجته إيمان مطلق بربه الذي خرج من أجله.
آمنت أم موسى فألقت ابنها في اليم؛ لتحميه من موت محتمل فتعرضه لموت محقق! وهي مطمئنة القلب لله الذي قذف في قلبها فكرة إخفائه في البحر ليتربى موسى في قصر من أراد قتله، بل يقوم بحراسته والسهر على راحته!
آمن بها موسى حين وقف بين البحر وعدوه وقال: "كلا، إن معيَ ربي سيهدين" دون أن يدري من أين تكون النجاة أو كيف.
آمن بها محمد صلى الله عليه وسلم حين خشي عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، إذ هما في الغار ليقول له: "يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدمه لرآنا"، لكن الحبيب يعلم أبا بكر درساً في الإيمان بكلمة: (يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
إيمان ليس بوسيلة، وليس يحكمه أسباب، إنما هو إيمان ينبع من قلب سليم، وصولاً بعمل خالص يحرك الإنسان في اتجاه غايته التي أيقن بها، فتحركت بها الجوارح كما تعلق بها القلب.
يقول الشهيد حسن البنا عن الإيمان بالفكرة:
"إنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها، وتوفر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها، فهي عناصر أربعة: الإيمان، والإخلاص، والحماس، والعمل".
عوامل تحول الفكرة إلى عمل
والإيمان بالفكرة لا يصح ولا يكتمل إذا ظلت حبيسة قلب صاحبها، وإنما يكتمل إذا تحرك بها وسط الخلق داعياً إليها حريصاً على نجاحها وانتشارها.
الإيمان بالفكرة لا يصح ولا يكتمل إذا ظلت حبيسة قلب صاحبها، وإنما يكتمل إذا تحرك بها وسط الخلق داعياً إليها حريصاً على نجاحها وانتشارها
ففي معرض حديث "مالك بن نبي" عن الدور الحضاري للإنسان، يشير إلى ضرورة توفر شرطين أساسيين في صاحب الفكرة، هما: الاقتناع والإقناع.
الاقتناع: هو الإيمان بالفكرة، وتشربها، واليقين بها، ويعلم صاحبها أنها الحل الوحيد الأكيد للمشكلة القائمة. وأما الإقناع: فهو السعي والحركة تجاه إقناع الآخرين بما يملكه من اقتناعه للفكرة. وبذلك يمكن له أن يؤدي دوره الحضاري.
ويقول سيد قطب رحمه الله: "آمن أنت أولاً بفكرتك، آمن بها إلى حد الاعتقاد الجاد، عندئذ فقط يؤمن بها الآخرون -ويضيف قائلاً:- كل فكرة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان، أما الأفكار التي لم تطعم هذا الغذاء المقدس فقد ولدت ميتة ولم تدفع بالبشرية شبراً واحداً إلى الأمام.
-ثم يضيف- إننا نحن إن نحتكر أفكارنا وعقائدنا، ونغضب حين ينتحلها الآخرون لأنفسهم، ونجتهد في توكيد نسبتها إلينا، وعدوان الآخرين عليها إننا إنما نصنع ذلك كله، حين لا يكون إيماننا بهذه الأفكار والعقائد كبيراً، حين لا تكون منبثقة من أعماقنا كما لو كانت بغير إرادة منا حين لا تكون هي ذاتها أحب إلينا من ذواتنا".
ويقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي عن باطن الإنسان الذي هو مستودع الإيمان: "إنه هو المنشأ لكل ما يصدر عن الإنسان من الأعمال، والسلوك في حياته، فالشيء يستقر داخل الإنسان إيمانًا بفكرةٍ أو تصورٍ، أو إحساساً بمشاعر أو رغبات، ثم يتحول إلى حركة عملية بفعل قوى إرادية داخلية، وبقدر ما يكون الإيمان مستقرًّا والإرادة قوية، تكون أعمال الإنسان منظمة، وذات فاعلية، وعلى قدر ما يكون إيمانه متذبذبًا وإرادته ضعيفة يأتي عمله غير متقن، وأخلاقه وسلوكه متناقضة، ولا يكون لحياته نظام متزن".
إن مهمة المصلح أو القائم على التغيير، هي مهمة الأنبياء والمصطفين من قبلُ، ولن تنجح فكرة إصلاحية، أو فكرة تغيير ما لم يتخلق بأخلاق من سبقوه بها ونجحوا فيها، ويتسم بسماتهم ويتبع منهجهم
إن مهمة المصلح أو القائم على التغيير، هي مهمة الأنبياء والمصطفين من قبلُ، ولن تنجح فكرة إصلاحية، أو فكرة تغيير ما لم يتخلق بأخلاق من سبقوه بها ونجحوا فيها، ويتسم بسماتهم ويتبع منهجهم، وللمصلح أن يبدع في وسائله التي تتناسب ولغة العصر التي يجب عليه أن يتقنها ويعدد من تلك الوسائل، شريطة ألا تخرج عن الخطوط الأصيلة لروح الفكرة التي يحملها، ثم هو يحملها في قلبه وعقله لتصير شغله الشاغل وأولويته سلوكاً وحركة واهتماماً، وذلك كله يتوقف على مدى إيمانه بها.