الانضباط الذاتي وأداء الواجب، منظور جديد ومنعش!

الرئيسية » خواطر تربوية » الانضباط الذاتي وأداء الواجب، منظور جديد ومنعش!
working22

الانضباط الذاتي: هو أن تقوم بما يجب عليك في الوقت الذي يجب فيه، سواء كان مزاجك حاضراً، أو هواك مسايرًا أم لا. وهذا المفهوم من أركان #الحياة القويمة في اعتقادي، لكن الكثيرين يخلطونه بتصوّر الآلية منزوع الشعور والمتعة والمعنى، ويلصقونه بالتشنجات العصبية وتشدّد الشخصية؛ بسبب عجين من مفاهيم مغلوطة عن الشغف والمتعة والإبداع والحرية...إلخ.

والحقّ أن الفيصل بين الانضباط الذاتي في حياة قويمة، وبين الآلية الميّتة في حياة جوفاء -في تعيين مدلول "الواجب" ومرجعيته، وكيفيته عند صاحبه، كيف ذلك؟ تعال ننزل من سماء المثاليات إلى أرض الواقع:

أترى ذلك الموظف القابع على مكتبه، ينهي الوظيفة المطلوبة منه على وجهها دون زيادة، ويكون أول المسارعين لباب الخروج عند انتهاء الدوام بالدقيقة؟

ثم انظر لزميله، ذاك النجم الاجتماعي، الذي يبذل طاقات جَمَّة يَمنة ويَسرة فوق المطلوب وظيفيًا؛ لأنه متطلع مِهَنيًا.

والآن لنعد لصاحبينا بعد عام أو عامين، الأول حيث هو، والثاني ترقّى وصار مدير الأول!

هل نشأ في نفسك حكم على كل منهما؟ لعلّك تحابي النموذج الثاني البرّاق على الأول التقليدي؟

حسنًا، تمهّل قليلاً، وتعال معي بعد انتهاء الدوام.

الفيصل بين الانضباط الذاتي في حياة قويمة وبين الآلية الميّتة في حياة جوفاء -في تعيين مدلول "الواجب" ومرجعيته وكيفيته عند صاحبه

تجد الموظف التقليدي يعود لمنزله مستقبلاً أهله ببشاشة، فيُصلّي ويتغدى معهم غداءً "صاخباً"، مقارنة باستراحته المنعزلة في العمل، أطفاله يشاركونه تفاصيل يومهم وهو يناقشهم، ثم يخلو لزوجه وتتجدد نفسه، ثم يخرج للصلاة، ويتم تسميع جزء القرآن على شيخه المجيز له في قراءة ورش بعد أن أتم قراءة حفص، ثم ينصرف لمسامرة الأصحاب في مجلس ذكر، أو توادٍّ مشروع، وينقلب وسطهم من موظّف المكنة لأنيس الجلسة، والكل يحب حضوره، ثم له أوقات دورية في الأسبوع يتطوع فيها لخدمة فئة محتاجة بمهاراته.

ما رأيك؟ فجأة، لم يعد هذا التقليدي بذاك السوء المبدئي، هاه!

طيب، دونك الآخر: النجم الاجتماعي!

يعود لمنزله مرهقاً، فيسلّم على والديه -لم يتزوج بعد؛ لأن طموحه لا يتحمل منافسة بذلك الثِّقَل- وقد اشترى ما طلبته منه والدته، وتذكّر حلوى والده المفضّلة، فيشكرانه ويحييهم، ثم يجرُّ نفسه جراً لفراشه، فيرتمي عليه، يصحو متأخراً وأهل البيت نيام، فيأكل من الطعام المتروك له في المطبخ، ويعد الأعمال الإضافية لتقديمها في الغد -ليست مطلوبة وظيفياً، لكنها ثمن تطلعه المهني- ثم يصلّي الفجر ويقرأ أوراده، ويترك لوالديه تحية الصباح في ورقة على باب الثلاجة، لينطلق بعدها لدوامه.

ممم، هل بدأ بريق هذا النموذج يخفت عن ذي قبل؟

إذا صارت كفّة حكمك تميل للأول على الثاني، فقد جانبك الصواب في هذه أيضاً!

ليس ثمة صواب أو خطأ في هذين النموذجين، وما بينهما، ولست مطالباً أو مدعوّاً للحكم على أيّهما، أو الميل لأحدهما! كلٌّ منهما عرّف واجباته لنفسه، وكيفية أدائها عنده، وارتضى ثمنها؛ لأنه ارتضى في المقابل مردودها، هذا هو الوجه البديع للواجب حين نكون يقظين في تعريفه لأنفسنا، وجه الارتضاء: كل ثمن تدفعه لتحقيق واجب، يردّه لك الواجب رصيداً في المقابل في وجهة أخرى، فإذا كنت تدفع من ثمن ترقيك الوظيفي لإعلائك الاشتغال بواجب الأسرة، تجد مردود ذلك في نوعية صلتك بأولادك ووقتك الخاص مع أهلك، وإذا كنت تدفع من ثمن حضورك المجتمعي والأسري، سيرد لك في الرصيد المهني الذي تسعى له.

واصطلاح "دفع الثمن"، ليس تهديداً بالخسارة، بل هو تقرير لواقع، فإذا كان تعريفك لصلتك بوالديك تحية الصباح على الثلاجة، والمساء في السرير، فأنت وشأنك، وإذا شئت تعريفًا أرضى عندك فابذل له، وهذه جمالية اصطلاح "دفع الثمن": أنك تدفع من نفسك لنفسك، وتنفق من أنفاسك لنفسك، وتقدم من عمرك لعمرك.

اصطلاح "دفع الثمن" ليس تهديداً بالخسارة، بل هو تقرير لواقع: أنك تدفع من نفسك لنفسك، وتنفق من أنفاسك لنفسك، وتقدم من عمرك لعمرك

العبرة بك أنت! واجه نفسك بصدق في تعريف حياتك ومعاني حياتك ، وفي الثمن الذي ستبذله جادًا فيما تريد طلبه أو تركه فعلًا، وفي الكيفيّة التي ستوازن بها كفوف اهتماماتك، والكيفيّة هي الإضاءة الثالثة في تصور الانضباط الذاتي.

أترى إلى الطالب الذي امتحانه بعد أيام ثلاثة، فهو عاكف على مكتبه مدفون بين صفحات الكتب؟ حوّل نظرك قليلاً إلى زميله، الذي نظر في أمره، فقرّر أن يخرج مع صحبة للترفيه، استغرق فيها يومًا كاملاً من ثلاثٍ معدودات! لو أنك وعيت الدرس الفائت، فستأخذ حذرك قبل أن تصيح بالثاني راميًا إياه بالجنون التاريخي!

بل لعلك تتنبه إلى لفتة ذكية ستشكِّل على المدى البعيد الفارق بين شخصية الطالبين. إن اليوم الكامل حين تستقطعه متعمداً لحاجتك، متيقظًا لمقاصدك، معتبراً لعواقبك، خير ألف مرة من الاستمرار في الواجب بنفسية الهروب منه، فتنفق نفس اليوم "وسط" الكتب فيزيائياً، وخارجها كليًا!

من قال إن واجب العلم اللصوق بالورق؟ واجب العلم تعلّمه، وكيفيّة التعلّم لها ألف باب غير الورق، لمن كان يقظًا وجادًا، على المدى البعيد، ستجد الأول يفزع من "الواجب"؛ لأنه عنده "بعبع" الكبت والضغط والهروبية النفسية، أما الثاني، فكل شأنه عنده واجب، أي وجب في حينه أن يفعله، فهذا الوجه اللطيف للكيفية والوعي بالمدلول الأرحب للواجب، يجعل حتى الترويح والتمتع والتخفف من الواجب حتى حين، من الواجب كل حين!

الوعي بالمدلول الأرحب للواجب، يجعل حتى الترويح والتمتع والتخفف من الواجب حتى حين، من الواجب كل حين

هذا، ولكل وقت واجبه، وترتيب أولوياته في حينه بما قد يغيّر من النظام المعتاد، أو أقدار واجبات أخرى، فمن الحكمة أن تتعهد نفسك كل حين بمراجعة أوقاتك، وواجباتها .

تلخيص للإفادة : انضباطك الذاتي -بلا تشنّجات عصبية- يتأتّى من:

1. تعريف الواجب.
2. ارتضاء الموازنة، (ولو أن تتقبل ما لا بد لك من تقبله، وتتعايش معه كطبائع والدين أو ظروف ابتلاء معين).
3. دفع الثمن.
4. كيفية الأداء.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …