في صبيحة ذاك اليوم، بدت الطرق مزدحمة أكثر من العادة، فالاحتفالات العامة بيوم الزينة مختلفة هذا العام، فكل وسائل الإعلام أعلنت عن هذه المواجهة، بل ووصفتها ب"الكبرى" وهي: بين الدعاة موسى وأخيه -عليهما السلام- وفرعون بجنوده وسحرته، فوقوف موسى أمام فرعون في قصره قبل مدة وأمام الملأ كان مثاراً للتعجب، ففرعون -كما يصف نفسه- هو الرب الذي يحمي دين الدولة من هرطقة الداعية موسى وإفساده، وهذا ما أكده في إحدى تصريحاته (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)، فالتقط المطبلين هذه الرسائل ولم يألوا جهدا في التحشيد للحضور (وقيل للناس هل أنتم مجتمعون؟؟ لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين!!!).
كانت المواجهة الأولى بينهما صعبة، فلقد رفض فرعون الدعوة (فكذب وأبى)، وارتبك كثيرا من قوة حجة موسى وحديثه عن ربه (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) وعن إهلاكه للقرون الأولى بسبب نكرانهم لنعمهم، وطلب حينها دليلا على قدرة رب موسى (قال: فأت بها إن كنت من الصادقين) ظناً أن هذا سيعجز موسى، فلم يتردد موسى لحظة واحدة، (فألقى عصاه فإذا هي ثعبانٌ مبينٌ، ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين)... عندها شعر فرعون بقوة هذه الدعوة وضعفه، ومدى قدرتها على تقويض نظامه القائم على المزاوجة بين الفساد والاستبداد بأركانهما الثلاثة:
1- (إن فرعون علا في الأرض) وتكبر وتجبر حتى وصل به الحال أن يقول: (ما أريكم إلا ما أرى) ف (أنا ربكم الأعلى).
2- (وجعل أهلها شيعاً)، فلقد دمّر منظومة المجتمع وصمام أمانه "العدالة الاجتماعية"، وقرّب له فئة المتنفعين فأصبح (ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد).
3- (يستضعف طائفة منهم) وهم بني إسرائيل (يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم).
هذه الثلاثية الهشة لا تصمد أمام حقائق موسى، فلجأ للحيلة الخسيسة، فاتهمه بالسحر، وخاطب أعوانه: (إن هذا لساحرٌ عليمٌ، يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون؟؟)، ظن الملأ أن المواجهة العلنية ستضعف من موقفهما، فأشاروا أن (أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين، يأتوك بكل سحّارٍ عليمٍ)، عندها صرخ فرعون (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى؟؟)
فالفاسدون يحصرون الوطن بشخوصهم ، (فلنأتينك بسحرٍ مثله، فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى)، إلا أنه تفاجأ بقبول موسى للتحدي، بل ووضع له الموعد والمكان والجمهور (قال: موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى).أقبل السحرة وليس في بالهم إلا المال والجاه، (قالوا لفرعون: أإن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟؟)، فهم لا يحملون قضية أو مشروعاً نهضوياً لأوطانهم، بل مرتزقة يدورون خلف القوي الثري، ويلعبون الدور المطلوب منهم في التطبيل مقابل حفنة من المال مهما قلّت، وهذا أمر يعرفه فرعون جيدا (قال: نعم وإنكم إذاً لمن المقربين).
ظن السحرة -كما أخبرهم فرعون- أن الأمر سحر مقابل سحر، وهم أهل الصنعة وخبرائها، ولكن... وقبل أن يصعدوا على منصة التحدي والناس قد احتشدوا من كل حدبٍ وصوبٍ، أوقفهم موسى فقال بصوت خافت يخاطب قلوبهم: (ويلكم... لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذابٍ، وقد خاب من افترى)... أربكتهم هذه الكلمات كثيرا (فتنازعوا أمرهم بينهم وأسرّوا النجوى)، شعروا بقوة موسى ودعوته، فهو فرد لا يُعرف له سابقة سحر فكيف يقف أمام سحرة متمرسين؟!، علام يعول وبمن يستعين؟؟ ولماذا قبل التحدي أصلا؟؟ لماذا حشد فرعون هذا الحشد من السحرة الخبراء في هذه الساحة المهيبة وهذا العدد الضخم من الناس ضد شخص أو اثنين لا يملكون عناصر القوة المعروفة؟؟ وما القوة التي يمتلكها موسى حتى يحذرنا قبيل المواجهة؟؟ من هو (الله) الذي حذرنا من سحت عذابه؟؟ ومن ربهما الذي أمدهما بهذه الطاقة ليتحملوا هذا الموقف؟؟ لماذا...؟؟ عاصفة من الاسئلة التي حاكت في رؤوسهم حيرة في تلك اللحظات، فاربكتهم وغيّرت من ملامح وجوهم...
انتبه فرعون للمشهد، فبعث مندوبيه لينقذوا الموقف ويؤكدوا على أكذوبة السبب (إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، ويذهبا بطريقتكم المثلى)، وأنتم عليكم أن تنقذونا من هذين الساحرين، (فأجمعوا كيدكم ثم أتوا صفاً، وقد أفلح اليوم من استعلى) وألقوا بين أيديهم شيئاً من الذهب ليذهب ببريقه كل ما فكروا به من أسئلة، ولكن يبدو أن هذه الأسئلة ما زالت موجودة.
دخلوا صفاً واحداً على منصة التحدي التي ينتظرهم موسى وهارون عليها، وهدأ الناس وابتلعوا ألسنتهم ليتابعوا المشهد... صرخوا (يا موسى: إما أن تلقي وأما أن نكون أول من ألقى)، فرد موسى وبكل وضوح (ألقوا ما أنتم ملقون)، فزادت الحيرة في رؤوسهم: من أين جاءت هذه الثقة؟؟ ألا يرانا جمعاً وهم اثنين فقط؟؟ أهو رجلٌ محمي من ربه الذي حذرنا منه؟؟... قطعت إشارة البدء كل خاطرة، (فألقوا حبالهم وعصيهم، وقالوا: بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون)... كان المشهد مرعباً و (سحروا أعين الناس واسترهبوهم، وجاءوا بسحرٍ عظيمٍ)... لم تتوقف الكاميرات عن التصوير وتضخيم المشهد، فلقد أعد فرعون شاشات ضخمة للعرض في مختلف الميادين، وبدأ الافاقون بنشر أكاذيبهم بين الناس: موسى كذاب، ساحر، مجنون، إرهابي، له أجندة خارجية، وفرعون وسحرته سينقذون البلد منه.
من سمع كلام موسى من قومه بالأمس بدأ يرتج خوفا من المشهد: كيف لموسى أن يخرج من هذه الورطة؟؟ أين هذا الرب الذي وعدنا موسى أنه سينقذنا من عبودية فرعون؟؟ هل تحملنا العذاب طيلة هذه المدة حتى نقع كلنا في فخ وعوده؟؟ أين ربك يا موسى؟؟
أصبح الموقف عصيبا على نفس موسى، فالمشهد (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى)، وصرخات الناس في الساحة تصم الآذان، ونظرات بني إسرائيل ويأسهم يقتل كل همة، فإلى أين المفر؟؟، عندها (أوجس في نفسه خيفة موسى)، وحق له أن يوجس، أليس إنساناً؟؟ أوليس فرداً وأخاه فقط؟؟ ألم يتعرض - كأي داعية - لدعاية الخصم حول فكره ومنهجه وأدواته فارتبك؟؟
ولكن السؤال الأهم: إذا ارتبك الداعية - هنيهة - لضغط الواقع فهل سيتراجع؟؟، عندها كلمه الله (لا تخف، إنك أنت الأعلى، وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا) سمع ربه مرة أخرى فكان جلاء لما علق بنفسه من مخاوف، وعلم أن الله ناصره ومعينه، فرفع نظره وعصاه إليهم، فألقاها وصرخ بصوت سمعه كل من حضر (ما جئتم به السحر، إن الله سيبطله، إن الله لا يصلح عمل المفسدين، ويحق الله الحق بكلماته، ولو كره المجرمون)، وأما العصا (فإذا هي تلقف ما يأفكون)، (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين).
عندها جاءت كل الإجابات كاملة على أسئلة السحرة، علموا أخيراً من وراء موسى وهارون، (فألقي السحرة ساجدين، قالوا: آمنا برب العالمين، رب موسى وهارون).
أسقط في يدي فرعون، فلقد استعان بأعلم السحرة وحشرهم من مختلف المدائن، حاول أن يهزم موسى في ميدان النقاش السياسي فلم يفلح، ثم حاول أن يهزمه في ميدان البهرجة والسحر والإعلام فكانت النتيجة (إنما صنعوا كيد ساحرٍ، ولا يفلح الساحر حيث أتى)، وبدل من أن يغلب موسى بالسحرة، آمن السحرة برب هارون وموسى.
فكّر سريعا بخطة بديلة، فاتهم السحرة بأنهم أعوان موسى وتلامذته أصلا، أرادوا أن يمثلوا على الشعب ويخطفوه ذهنيا نحو دعوة موسى ومطالبه الاصلاحية (قال: آمنتم له قبل أن آذن لكم، إنه لكبيركم الذي علمكم السحر)، ثم قرر العقوبة المرعبة على الفور ليصيبهم بالهلع وليمنع أي أحد من الحاضرين للتأثر بموقفهم، فقبل قليل كان دورهم مهم لفرعون وأصبحوا الآن خطرا عليه (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلافٍ، ولأصلبنكم في جذوع النخل، ولتعلمنّ أينا أشد عذاباً وأبقى).
إلا أن السحرة فاجأوا الجميع، فهم أهل خبرة بمجالهم، وصوتهم مسموع بحكم الشهرة، وأن الموقف برمته أثار أسئلة كبرى كان لا بد من الوقوف عندها، فلما تيقنوا من موقفهم (قالوا : لا ضير، إنا إلى ربنا منقلبون، إنا نطمع أن يغفرلنا ربنا خطايانا أن كنّا أول المؤمنين)، وعلموا أن ما ينقمه فرعون منهم ويزعجه أيما إزعاج (أن آمنا بآيات ربنا لمّا جاءتنا)، وهذه عادة الطغاة، فمشكلتهم ليست مع الدعاة بل هي مع المنهج الذي يدعون إليه ، فقد جاءتهم الآيات (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً)، ولكن يبدو أن الموقف قد فعل في نفوس السحرة أكثر مما تصوروا، فهو أعطاهم من القوة والدافعية والجرأة ما دفعهم أن يقولوا لفرعون (لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات والذي فطرنا)، ثم يستجمعون قواهم فيقولوا (فاقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) (والله خيرٌ وأبقى).
وبهذا تطوى صفحة من صفحات المزاوجة بين سلامة منهجية البحث عن الحقيقة وسلامة الضمير الذي يتحمل مسؤولية اعتناقها، وارتقت أرواحهم طاهرة لبارئها... شاهدة على ثبات موسى وأخيه أمام طغيان نظام فرعون واستبداده.