نحرص على توفير المرايا في مداخل بيوتنا أو في غرفنا الخاصة، وكثيرا ما ننظر إليها لنتأكد من تناسق منظرنا أو ضبط هندامنا لنكون بأجمل هيئة وأحسن صورة، فهذه المرآة لا تخدعك ولا تغشك وتبين لك محاسن مظهرك أو تظهر لك نقائصه لتستدرك ما كان فيه خلل.
فإن كانت هذه المرآة على هذه الدرجة من الأهمية لمظهرنا كان لا بد لنا من مرآة تعكس صورة دواخلنا وبواطن شخصيتنا لنزيد للحسن حسنا أوندفع من عيب أو نقص طرأ علينا ، فكان لا بد من مرآة صادقة تظهر انعكاس شخصيتنا على حقيقتها دون دون إفراط أو تفريط لا غش فيها ولا خداع، وكعادة تعاليم ديننا الحنيف فاهتمامه لا يقتصر على ظاهر الأمور دون حقائقها، وإنما يحرص كل الحرص على التوافق مابين الظاهر والباطن فإذا صلح الباطن واستقام تجلت آثاره على الظاهر دون أن تمسه لوثة النفاق والخداع.
ومما استوقفني حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن مرآة أخيه والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه" (البخاري، الأدب المفرد)، ففيه من لطائف وجميل المعاني ما يؤكد على ما سبق ويجذب انتباهك لضرورة أن يكون لك مرآة في نفس مؤمنة تربطك بها رباط متين من أخوة الإيمان تعكس بها صورتك الحقيقية.
ويوضح لك الحديث معالم ومواصفات المرآة التي تحتاجها في سعيك بهذه الحياة فهي تتعدى حدود المادة الضيقة لتنطلق بك من قيودها وتركز على مثالب أو مناقب لا تعكسها مرآة الزجاج، لتؤكد على حاجتنا الماسة لوجود مرآة الباطن في حياة كل منا والتي لا تقل عن حاجتنا لمرآة الظاهر إن لم تكن أهم؛ فالأولى ممكن الاستغناء عنها أما الثانية فلا!
نحن بحاجة ماسة لوجود مرآة الباطن في حياة كل منا والتي لا تقل عن حاجتنا لمرآة الظاهر إن لم تكن أهم؛ فالأولى ممكن الاستغناء عنها أما الثانية فلا
ولم يأت تحديد حقيقة مرآة باطنك بالمؤمن من فراغ فوحده المؤمن الذي يراعي فيك وفي حقوقك حق الله فلا يظلمك ولا يبخسك ولا يشوهك، بل لا تتوقف أهمية هذا المؤمن في حياتك على انعكاس صورتك فيه بل هو بمثابة الدرع لك يحيطك ويسترك وقد جاء في تفسير هذا الحديث: "إن المؤمن في إراءة عيب أخيه إليه كالمرأة المجلوة التي تحكي كل ما ارتسم فيها من الصور ولو كان أدنى شيء فالمؤمن إذا نظر إلى أخيه يستشف من وراء حاله تعريفات وتلويحات فإذا ظهر له منه عيب قادح كافحه فإن رجع صادقه" (المناوي، فيض القدير)، ومما قاله آخرون حول هذا الحديث: " كن لأخيك كالمرآة تريه محاسن أحواله وتبعثه على الشكر وتمنعه من الكبر وتريه قبائح أموره بلين في خفية تنصحه ولا تفضحه".
وانظر لجمال التوصيف وتحبيبه للنفس إذ يدفعك دفعا أن تبحث عن هذا الأخ وتنزله هذه المنزلة: "(يكف عليه ضيعته)؛ أي يجمع عليه معيشته ويضمها له وضيعة الرجل ما منه معاشه، (ويحوطه من ورائه)؛ أي يحفظه ويصونه ويذب عنه ويدفع عنه من يغتابه أو يلحق به ضررا ويعامله بالإحسان بقدر الطاقة والشفقة والنصيحة وغير ذلك قال بعض العارفين كن رداء وقميصاً لأخيك المؤمن وحطه من ورائه واحفظه في نفسه وعرضه وأهله فإنك أخوه بالنص القرآني فاجعله مرآة ترى فيها نفسك فكما يزيل عنك كل أذى تكشفه لك المرآة فأنزل عنه كل أذى به عن نفسه" (المناوي، فيض القدير).
وهذا تصديق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره قال تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره" (رواه البخاري).
أوليس تطبيق هذا الحديث في حياتنا يكون بمرآة نعكس بها صور بعضنا فتظهر انعكاسات أعمالنا بمرآة أخوتنا فإن ظُلم أخ لنا نصرناه، وإن انعكست أعماله في مرآتنا ظلماً وعدواننا نصرناه وأظهرنا له عيبه فأعناه على نفسه بأن كففناه عن ظلمه.
تجد أخاك يشد من عزمك إذا فترت همتك ويدفعك إذا تلكأت نفسك فتجتاز درب الحياة وقد استهنت بصعابها وتزودت بالمسير فيها بخير زاد
فتجد أخاك يشد من عزمك إذا فترت همتك ويدفعك إذا تلكأت نفسك فتجتاز درب الحياة وقد استهنت بصعابها وتزودت بالمسير فيها بخير زاد، ويمنعك من أن تستمر في غيّك ناصحاً محباً لك مشفقاً عليك من أن تستفرد بك الشهوات أو الشبهات، ولو بحثت في سيّر السابقين لوجدت حرصهم على ذلك لأن درباً مثل هذا الدرب الذي نسلكه به من المعوقات والعثرات ما به يحتاج أن تبحث فيه عن أخ يرعى ودادك ويذكرك في مآلك وغاية وجودك في وقت تتزاحم به دنياك بطلاب الدنيا واللاهثين على حطامها بما ما تسلل إليهم من خلل لتقييمهم للأمور والحكم عليها بمنظور مادي قاصر لا يتعدى حدود هذه الحياة، لذا تقرأ في سير السابقين عن من كان يأخذ بيد أخيه قائلا له: "تعال بنا نؤمن ساعة"، وما أثمنها من ساعة تسير بها إلى موجدك وبارئك يشد فيها من عضدك أخ يذكرك إذا نسيت ويكون مرآتك التي تعكس لك صورة نفسك بما لها وعليها.
فكم مثل هذه النصوص _التي نحن في أشد ما نكون حاجة لها_ قد غيبناها عن واقع حياتنا واستبدلنا الرؤية بمنظارها والحياة بقيمها بمصالح دنيوية لا تسمن ولا تغني من جوع، فما زادت الإنسانية إلا شقاء وهبوطا إلى أسفل دركات الانحطاط في معاييرها وقيمها وأهدافها وغاياتها، وما أحوجنا لنترجم مثل هذه الإرشادات النبوية لتكون القيم التي نسعى للتخلق بها في سلوكياتنا وتعاملاتنا لا مجرد حفظها وترديدها، وننزلها منزلها الذي ينبغي أن يكون، فنراعي الله في كل أحوالنا ونستبدل المعايير المادية التي طغت على حياتنا وأحكامنا معاييرا لا تخطئ بوصلتها ولا يشقى ساعيا بها وكيف يحدث ذلك والصادق المعصوم يقول: "قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" (رواه الحاكم في المستدرك).
كم مثل هذه النصوص _التي نحن في أشد ما نكون حاجة لها_ قد غيبناها عن واقع حياتنا واستبدلنا الرؤية بمنظارها والحياة بقيمها بمصالح دنيوية لا تسمن ولا تغني من جوع، فما زادت الإنسانية إلا شقاء وهبوطا إلى أسفل دركات الانحطاط في معاييرها وقيمها وأهدافها وغاياتها
فما كانت النتيجة عندما تركنا المحجة البيضاء واحتكمنا لأهوائنا وشهواتنا فلا نصاحب إلا مدّاحا ونعرض عمن يبصرنا ويأخذ بأيدينا لتقويم عيب أو تعزيز خُلق وخصال، فهل ظهور أولئك الذين لا يرتدون إلا ثوب القداسة فلا يرون ولا يتكلمون ولا يعملون إلا حقا وما عداهم باطل بل والتصفيق لهم بحرارة إلا نتيجة غياب المرآة الحقيقية عن حياتنا وأعمالنا، وما قيمة سورة العصر التي كانت خاتمة مجالس الصالحين، وهل هي إلا مرآة للمؤمن ينظر بها لحقيقة نفسه وبواطنها من خلال انعكاس صورته وعمله في نفس أخيه المؤمن ؟؟!.