انتظرت الأراضي الفلسطينية يوم الجمعة، مترقبة استكمال شعبها ما بدأه في جمعاته السابقة بمسيرات #العودة الكبرى من الوقوف وحيدًا، مؤكدًا للاحتلال عدم تنازله عن حقه في العودة، ومثبتًا للعالم أنه مستمر في ريّ ظمأ أرض أجداده بدماء أبنائه، التي تبقي قضيته حية مادام النبض باقيًا في عروقه.
فالمتابع المدقق للمشهد الفلسطيني يجد أن الفعاليات الأخيرة ضد الاحتلال، لم تكن بدايتها "يوم الأرض"؛ إذ اشتعل أوارها على الأراضي الفلسطينية، عقب إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب #القدس عاصمةً لـ”إسرائيل"، ولم يتوقف ذلك الغضب الفلسطيني حتى الآن.
غضب كبريتي
فربما ما يدعو للمتابعة والاهتمام حقًا، هو ذلك الغضب العربي الكبريتي الذي لم يكد يشتعل بالتنديد الرسمي والرفض والشجب، حتى انطفأ بصمت مبهم، واصلًا إلى حد قصر مأساة فلسطين على المسجد الأقصى فقط، واعتبار "الفلسطينيين والصهاينة من حقهم أن تكون لهم أراضيهم الخاصة بهم"، كما صرح بعض القادة العرب، واضعين طرفي الصراع على قدم واحد.
وامتدت قتامة الوضع السياسي واعتباراته المتعددة، بشكل واضح على المنظمات الأممية والحقوقية؛ إذ كان أول موقف عربي من التعامل الإجرامي مع المسيرات الفلسطينية، بعد أربعة أيام من سقوط الشهداء والمصابين؛ عبر بيانات الجامعة العربية مطالبة بتحقيقٍ دولي في الواقعة.
ورغم الاعتبارات السياسية التي تصاغ من خلالها التنازلات، إلا أن الحراك الأخير كشف عن تراجع للقضية الفلسطينية لدى المواطن العربي، وتفاعله معها؛ إذ أصبح التعاطي معها كأي قضية سياسية في المنطقة يمكن التضامن معها عبر وسم إلكتروني لا أكثر؛ وهو ما يجعلنا نتساءل: لماذا ضعف اهتمام الشعوب العربية بالقضية؟ ومن المسؤول عن ذلك التراجع؟ وكيف تستعيد مكانتها في الوجدان العربي والإسلامي في ظل محاولات تسويتها من كافة الأطراف؟
كشف الحراك الأخير تراجع للقضية الفلسطينية لدى المواطن العربي، وتفاعله معها؛ إذ أصبح التعاطي معها كأي قضية سياسية في المنطقة يمكن التضامن معها عبر وسم إلكتروني لا أكثر
قراءة في الواقع
لا شك أن ما عانته دول المنطقة خلال السنوات الماضية من احتدام سياسي، وأحداث عنفٍ داخلية، أثر على مدى اهتمام المواطن العربي بالقضايا المحيطة به ، فقضايا بلده وما يعانيه من قمع أمني، وحظر تجوال، وأزمات اقتصادية واجتماعية طاحنة، شكلت دوامة تسحبه لمتابعتها، ومتغيرات أعادت ترتيب أولوياته الفكرية.وفي السياق ذاته لا يمكن تجاهل تأثير الاعتياد على مشاهد القتل وقصف المدنيين، أو اعتقال المتظاهرين المعارضين للأنظمة والاعتداء عليهم إلى حد دهسهم بعربات الشرطة المصفحة.. إلخ؛ إذ تشير الدراسات النفسية إلى أن حساسية المُشاهدين للعنف تؤدي إلى نوع من اللامبالاة إذا ما شاهدوا عرض حدث دام يقع أمامهم، وهو ما يفسر انعدام التأثير العاطفي لما يحدث في فلسطين على المتابع العربي، بالإضافة إلى عامل المقارنة في بعض الأحيان بين العنف الممارس من بعض الأنظمة تجاه شعبها، وبين ما يمارسه الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، ما لا يرى فيه المتابع عاملًا قويًا للتأثر.
ولا يمكننا تجاهل تأثير الخطاب السياسي الرسمي على عقلية المواطن العربي، فرغم عدم اتفاق الشعوب في كثير من الأحيان مع مسار التطبيع السياسي الذي تنتهجه أنظمتها، إلا أنها تتأثر بتوجه دولها في النهاية؛ فحملات تشويه المقاومة الفلسطينية واتهاماتها الدائمة بالإرهاب، كان لها واضح الأثر في التعاطي العربي معها ، بل انتقل أثرها للمواطن الفلسطيني ذاته الذي بات يستميت في التأكيد على سلمية فعالياته، رغم شرعية البارودة في يديه كصاحب حق يدفع الاحتلال عن أرضه.
كما أسهم التناول الإعلامي للقضية بشكل كبير في ترتيب أولويات المواطن العربي تجاهها؛ فبجانب تهميشها وعدم الاهتمام السابق بها، بل واستغلالها في بعض الأوقات في التراشق السياسي بين الأنظمة في المنطقة، إلا أن التوجه ذاته بدأ يعكس التطبيع وتقبل التواجد الصهيوني بشكل فجٍ، وليس أدل على ذلك أوضح من ظهور المتحدث الإعلامي باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي بشكل متكرر على قناة الجزيرة.
أسهم التناول الإعلامي للقضية بشكل كبير في ترتيب أولويات المواطن العربي تجاهها؛ فبجانب تهميشها وعدم الاهتمام السابق بها، إلا أن التوجه ذاته بدأ يعكس التطبيع وتقبل التواجد الصهيوني بشكل فجٍ
وفي إطار محاولة الوقوف على مسببات تراجع الاهتمام العربي والإسلامي بالقضية الفلسطينية، فمن غير المنطقي تحميل المسؤولية للأنظمة العربية، والظروف السياسية الخارجية فقط؛ فاستمرار الانقسام الفلسطيني، وانبثاق تيارات سياسية عن التيارات المنقسمة، ورفض بعض التيارات التصالح مع البقية تحت حجج وذرائع مختلقة، أظهر الشعب الفلسطيني للعالم وكأنه يقتات على ذاته، فضلًا عما وفره من فرصة ذهبية لاستغلال القضية سياسيًا.
وبالعودة إلى سياسات الأنظمة والحكومات الحالية في العالم العربي تجاه الاحتلال، فلا يمكن سوى التأكيد على أن محاولات تصفية القضية الفلسطينية، والمساوة بين الاحتلال والشعب الفلسطيني لا يمكن اعتبارها إلا خيانة للأمة جمعاء، وأن التنازلات السياسية التي يقدمها حكام العرب للاحتلال لن تزيدهم انغراسًا في الحضن الأمريكي الذي يبحث عن أكبر مصالح يمكن جنيها من المنطقة.
محاولات تصفية القضية الفلسطينية، والمساوة بين الاحتلال والشعب الفلسطيني لا يمكن اعتبارها إلا خيانة للأمة جمعاء
الوجود مقاومة
وبالرغم من تلك الصورة إلا أن ذلك لا يعني أن القضية تتجه نحو التصفية بالفعل رغم المحاولات الدؤوبة لذلك؛ فالصمود الفلسطيني رغم ما قد يتراءى للبعض من بساطة تحركاته، إلا أنه يعتبر أقوى من أي وقت سبق ، إذا ما نظرنا إلى الإصرار في ظل التضييق السياسي من قبل السلطة الفلسطينية على أي تحركات ضد الاحتلال، بالإضافة لمحاولات تقويض المقاومة المسلحة والتضييق عليها بشتى السبل، فضلًا عن حالة الانقسام الجغرافي الذي يعانيه الشعب الفلسطيني.
فأهم واجب للوقت في هذه المرحلة هو استمرارية المقاومة بكافة أنواعها ، وإذا ما تم استبعاد خيار السلاح فإن المقاومة المبدعة ليست ببعيدة عن نضال الشعب الفلسطيني الذي ابتكر ذلك المصطلح، وطبقه عبر المسيرات السلمية على الحدود مع الاحتلال، أو غرس الأشجار تغلبًا على التجريف الصهيوني المتعمد والاستيلاء على الأراضي، فيما يعرف بحملات "ازرع صمودك"، أو حملات المقاطعة المنظمة التي من شأنها إرباك الاحتلال.وكما ينجح العمل التنظيمي في التأثير القوي ولفت الأنظار العالمية، فإن الحراك الفردي كذلك له انعكاسه المميز، ولعل لنا أسوة حسنة في الشهيد باسل الأعرج الذي جاب فلسطين موعيًا اليافعين فيها بحقهم في الأرض، حتى استشهد برصاص الاحتلال بجوار بندقيته، وكذلك الشهيد بهاء عليان الذي دخل موسوعة جينيس بتنظيمه أطول سلسلة قراءة حول أسوار القدس، واستمر في مقاومته الثقافية عبر تنظيم المبادرات الاجتماعية، لتطوير المدينة، حتى استشهد في عملية الباص الفدائية ضد الاحتلال.
ولا يمكننا إغفال ما قد تحدثه فعاليات الفلسطينيين المتواجدين في الخارج من وقع نفسي على أبناء تلك البلاد، فضلاً عن دورها في حفظ التراث وإثبات التشبث الدائم بحق العودة.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن المعركة الآن هي إعلامية بامتياز بعد أن اختار الفلسطينيون خيار المقاومة الشعبية، وفتحوا صدورهم عارية أمام الآلة العسكرية الإجرامية للاحتلال الصهيوني.
المعركة الآن هي إعلامية بامتياز بعد أن اختار الفلسطينيون خيار المقاومة الشعبية، وفتحوا صدورهم عارية أمام الآلة العسكرية الإجرامية للاحتلال الصهيوني
وعندما نقول إن المعركة إعلامية؛ فإننا نعني الإعلام بمعناه الواسع، والذي يشمل منابر المساجد ومنصات التواصل الاجتماعي، وحتى الدروس المدرسية، بالإضافة إلى وسائل الإعلام الجماهيري المعروفة، من صحف وفضائيات وإذاعات.
وتنقسم الجهود المطلوبة في هذا المجال إلى اتجاهين، الأول هو نقل ما يحدث على الأرض، وتبيان سلمية وشعبية الحراك القائم، وطبيعة الإجرام الصهيوني في حق الفتية والفتيات والشيوخ والأطفال الذين خرجوا.
والثاني، هو حشد أكبر قدر ممكن من الدعم للطليعة الحالية على الحدود بين قطاع غزة وبين الكيان الصهيوني، سواء من أهل غزة، أو من أهل الضفة، وأهل الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948م.
ويشمل الدعم المطلوب؛ تحريك الضمير العالمي في الاتجاهات الحقوقية والإعلامية، وعلى مستوى البرلمانات والأحزاب والقوى الشعبية الداعمة للقضية الفلسطينية.
وفي النهاية فلابد من الإيمان بأن جوانب الصراع العقدية والقومية والوطنية، هي ما تميزه عن غيره من أي نزاع على وجه البسيطة، وتؤكد أن تلك القضية تستعصي على التصفية والانتهاء ، بوعد نبوي في حديثه صلى الله عليه وسلم "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: "بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ" (أخرجه أحمد في المسند).