أول ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم وصلى معه المؤمنون، توجه للمسجد الأقصى كقبلة له، ثم أمره الله تبارك وتعالى التحول بقبلته ناحية المسجد الحرام، فأثار هذا لغطاً كثيراً حول حكمة الله في هذا التحويل، والسؤال حول حكمة جعل المسجد الأقصى قبلة أولى، وعدم جعل المسجد الحرام هو القبلة منذ البداية؟! ولماذا يأمر الله بأمر ثم يأمر بعدها بغيره، أو يحكم الله بحكم ثم ينسخه ببديله؟
وحول هذا الأمر نتحدث من خلال هذه النقاط الآتية:
1- البَدَاءُ في حقّ الله:
البَدَاءُ لغةً: ظهور الرأي بعد أن لم يكن.
أو: استصواب شيء عُلم بعد أن لم يعلم.
والبداء في حقّ الله تعالى قال عنه الشهرستاني في (الملل والنحل): "البداء له معان:
- البداء في العلم، وهو أن يظهر له خلاف ما علم، ولا أظن عاقلاً يعتقد هذا الاعتقاد.
- والبداء في الإرادة، وهو أن يظهر له صواب على خلاف ما أراد وحكم.
- والبداء في الأمر، وهو أن يأمر بشيء ثم يأمر بشيء آخر بعده بخلاف ذلك."
وظاهرٌ قطعاً أن النوعين -الأول والثاني- يستحيلان على الله تعالى، وأن النوع الثالث هو الجائز، وهو ما يعرّفه العلماء بالنسخ.
وما حدث في تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام هو من ذلك، نسخ لحكم كان موجوداً بحكم آخر، ولأمر كان موجوداً بأمر آخر.
ما حدث في تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام هو من ذلك، نسخ لحكم كان موجوداً بحكم آخر، ولأمر كان موجوداً بأمر آخر
ولقد قالت اليهود بالبداء على الله بمعنييه الأولين، قال الشهرستاني في الملل والنحل: "وفي توراتهم البداء الذي هو أشد من النسخ، وذلك أن فيها أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: سأهلك هذه الأمة، وأقدمك على أمة أخرى عظيمة، فلم يزل موسى يرغب إلى الله تعالى في أن لا يفعل ذلك حتى أجابه فأمسك عنهم، وهذا هو البداء بعينه!"
وهناك بعض الفرق الإسلامية التي قالت بالبداء مثل الكيسانية أتباع المختار الثقفي، وكان المختار يخبر أصحابه أنهم سينتصرون في المعارك، فإذا هزموا قال لهم: بدا لله أمر آخر!
2- اختبار العباد في صدق اعتقادهم في الله وصدق تسليمهم له.
لقد جعل الله قرآنه الكريم دستوراً لأمة الإسلام، وهادياً لها إلى يوم القيامة، وبالرغم من ذلك يخبر الله تعالى أن في كتابه آيات محكمات وأُخرَ متشابهات، قال تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7].
وإنه لفي مقدور الله قطعاً أن يجعله كله آيات محكمات، لكنه قصد بهذه المتشابهات ما قال فيه: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} [آل عمران:7].
إذن قصد الله وجود هذه المتشابهات؛ حتى يتتبعها الذين في قلوبهم زيغ، فيضربوا القرآن ببعضه، ويؤولوه حسب أهوائهم ورغباتهم.
أما الذين آمنوا فيرجعون في فهم هذه المتشابهات إلى المحكمات، ويؤمنون بها كلها، فكلٌ من عند الله.
وهذا شبيه بما حدث في حادثة تحويل القبلة، فأما الذين في قلوبهم زيغ والكافرون فيقولون: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة:144]. وقد كان ذلك مراداً ومقصوداً لله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143].
وقد وضح الله وقطع أن المؤمنين الصادقين سيسلّمون لله تمام التسليم، فهم على طاعته أياً كان أمره، وسيقدرون الله حق قدره، فلا يؤثر تغيير أمر الله في حسن إيمانهم بالله ولا في حسن تقديرهم له.
3- قبلة المسلمين وقبلة اليهود والنصارى قبلهم.
الظاهر من الكلام حول قبلة الأمم السابقة على أمة الإسلام من اليهود والنصارى التي كانوا يصلون إليها أن هذه القبلة كانت المسجد الأقصى.
والظاهر من الكلام أن الله جعل قبلتهم للمسجد الحرام أولاً، ثم حرفوا وغيروا وجعلوا قبلتهم للمسجد الأقصى.
والظاهر من الكلام حول قبلة المسلمين أن الله جعلها أولاً للمسجد الأقصى من أجل تأليف اليهود إلى دين الإسلام، حيث نفس القبلة.
ثم أعاد الله نبيه إلى القبلة الأولى، وهي القبلة التي جعلها الله لكل عباده من آدم عليه السلام إلى يوم القيامة.
الظاهر من الكلام أن الله جعل قبلة الأمم السابقة للمسجد الحرام أولاً، ثم حرفوا وغيروا وجعلوا قبلتهم للمسجد الأقصى
وقد ألحّ النبي صلى الله عليه وسلم على ربه من أجل أن يحول قبلته للمسجد الحرام، وفي ذلك قال الله تعالى: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}[البقرة، الآية:144].
4- هيمنة أمة الإسلام على الأمم قبلها في حادثة تحويل القبلة.
لقد جعل الله قبلة أمة الإسلام أولاً إلى المسجد الأقصى مثل الأمم قبلها من اليهود والنصارى في ما صاروا إليه.
ثم حولها الله إلى القبلة الأولى، القبلة التي ارتضاها الله لكل الخلق منذ الإنسان الأول.
وكأنها إشارة إلى أن هذه الأمة هي أمة الحق الأول، وأمة الهداية الأولى.
حول الله قبلة أمة الإسلام إلى القبلة الأولى.. القبلة التي ارتضاها الله لكل الخلق منذ الإنسان الأول. وكأنها إشارة إلى أن هذه الأمة هي أمة الحق الأول، وأمة الهداية الأولى
وهذا هو سر قول الله تعالى في أعقاب حديثه عن تحويل القبلة: {قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة:142-143].
قال ابن كثير في تفسير {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً}: "إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، واخترناها لكم؛ لنجعلكم خيار الأمم؛ لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم; لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، و"الوسط" هاهنا: الخيار والأجود ، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً، أي: خيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه، أي: أشرفهم نسباً، ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب".
5- مكانة المسجد الأقصى في أمة الإسلام.
للمسجد الأقصى مكانة عظيمة في أمة الإسلام، فقد جعله الله قبلتهم الأولى، وكأنها إشارة إلى تأكيد أهميته أولاً عندهم، حتى إذا تحولوا إلى المسجد الحرام، تظل قدسية المسجد الأقصى عندهم، فقد كان لهم قبلة أولى، ثم تأكدت قدسيته بعد ذلك في رحلة الإسراء، التي أسرى الله فيها بنبيه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
وفي حادثة تحويل القبلة وحادثة الإسراء بعدها توثيق لكون أمة الإسلام أولى بالمسجد الأقصى من الأمم كلها، فهي وارثة دين الله الحق، والمسجد الأقصى هو مسجد المؤمنين بحق، والذين حصرهم الله في أمة الإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أراد الإيمان بحق فعليه بأمة الإسلام، ومن أراد وراثة الأنبياء بحق ووراثة مقدساتهم فعليه بأمة الإسلام، ولا سبيل غير ذلك، ولا أمة للمؤمنين غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم منذ بعثته إلى يوم القيامة.