حروف الوسوم الزرقاء .. قضايانا التي لم تعد “تريند”!

الرئيسية » بصائر الفكر » حروف الوسوم الزرقاء .. قضايانا التي لم تعد “تريند”!
twitter15

نجح الشباب الفلسطيني في لفت أنظار العالم أجمع، ميدانيًا عبر تحركاتهم النضالية المنظمة والمبدعة في تنظيم الفعاليات ضد الاحتلال، وإلكترونيًا عبر تدشين وسوم مسيرات العودة، وجمعة الكوشوك، التي استطاعت أن تتربع على عرش "التريند" في مواقع التواصل الاجتماعي تويتر، وفيس بوك، ومن ثم محركات البحث المختلفة.

وبدأت وسائل الإعلام المختلفة تسلط أضوائها على المشهد الفلسطيني، بعد أن حقق وسمه "التريند"، ما خلق مجالًا مهما للحديث بشأن اختيار الإعلام لقضاياه المختلفة، وهل يقع الاختيار لتلك القضايا لمجرد احتلالها مرتبة على مؤشرات "التريند"؟ أم أنها برزت للرأي العام وتصدرت "التريند"؛ نظرًا لاهتمام وسائل الإعلام بها؟

فالمتابع لاختيار العديد من وسائل الإعلام التقليدية والإلكترونية بشتى أنواعها، يلاحظ أن وسائل البحث الحديثة، ومواقع التواصل الاجتماعي، خلقت حالة من الهيستيرية في حياة الخبر الصحفي، فما أن يظهر الحدث مهما كان نوعه بين مؤشرات "التريند"، حتى يصبح هدفًا منشودًا تتسابق وسائل الإعلام إليه، ويتهافت المدونون على اللحاق بركبه مزينين منشوراتهم بتلك الكلمات الزرقاء اللون، مادامت متربعة على عرش "التريند"، الذي سرعان ما يبدل حروف ساكنيه، مغيبًا العديد من القضايا عن الأذهان، وكأن تريندًا لم يكن!

ولعل تفسير تلك الظاهرة يتضح إذا ما تطرقنا لمفهوم ذاك "التريند"، الذي تسلل مصطلحه من عالم الاقتصاد، حيث أُطلق فيه على اتجاه تحرك الأسعار؛ لتقييم السلوك العام للسوق والتفاعل معه؛ منتقلًا إلى عالم الإعلام الذي أشار فيه إلى اتجاه محركات البحث على جوجل أو مواقع التواصل الاجتماعي، فيس بوك وتويتر، موضحًا أهم ما يتداوله مستخدمو تلك المواقع.
وبالنظر لذلك المفهوم يمكننا اعتبار أن انسياق وسائل الإعلام وراء "التريند"، والاعتماد عليه أساسًا لاختيار القضايا المتناولة، يرجع للنظر إليه باعتباره معبرًا عن الاهتمام الرائج بالفعل، سيجني مكسبًا مؤكدًا، مادامت العملية الإعلامية تحولت لمسألة تجارية بحتة.

ولا يبدو منطقيًا بحال من الأحوال، مطالبة وسائل الإعلام بتجاهل ما يشغل الجمهور من قضايا، وهي تحمل مسؤولية التعبير عن الرأي العام ضمن أدوارها الأساسية؛ إلا أننا بصدد مناقشة ظاهرة اعتبار "التريند" المعيار الأساسي في ترتيب أجندة الإعلام.

لا يبدو منطقيًا بحال من الأحوال، مطالبة وسائل الإعلام بتجاهل ما يشغل الجمهور من قضايا، وهي تحمل مسؤولية التعبير عن الرأي العام ضمن أدوارها الأساسية

حشد مزيف!

إن آفة "التريند" تتضح إذا ما نظرنا إلى ذلك المصطلح من جانبين: الأول- هو إمكانية صناعته بشكل احترافي باستخدام الأموال، أو بمعنى آخر هل يمكن تشكيل "تريند" مفتعل؟

إن الإجابة توضحها تصريحات سابقة لرئيس اتصالات السياسة العامة في شركة «تويتر» بأوروبا والشرق والأوسط إيان بلانكيت، التي أكد فيها أن الموقع بدأ بإيقاف ملايين الحسابات الوهمية، واتخاذ الإجراءات القانونية ضد السماسرة الإلكترونيين، بالتنسيق مع الجهات الأمنية في كل دولة.

وفي إطار دراسة ظاهرة "التريند" باختلاف توجهه وقضاياه، قامت إحدى الصحف السعودية خلال العام الماضي بإجراء تحقيق صحفي تواصلت فيه مع أحد السماسرة الإلكترونيين، والذي أكد أن بعض السماسرة يعملون على رفع "الوسم" إلى التريند مقابل 2000 ريال، عبر الاستعانة بالحسابات الوهمية بالتغريد والكتابة على وسم معين ليصل إلى التريند بشكل سريع.

وقد يتراءى للبعض أن تزييف "التريند" عبر السماسرة لا يتعدى الرغبة في الترويج لسلع أو أفكار فردية...إلخ؛ لكن الخطر الحقيقي يكمن في إمكانية قيام أجهزة معلومات واستخبارات متخصصة ومُكرَّسة لذلك، في خلق تيار كامل قد لا يكون حقيقياً أصلًا، أو لا يملك ذلك القدر من الرواج .

ويصوغ لنا الواقع أمثلة على ذلك؛ تتجلى في نجاح الحكومة المصرية في إيقاف إحدى الوسوم المسيئة للرئيس، بالإضافة إلى ما تردد عن شراء دولة قطر لوسم "تحرير قطر" خلال الأزمة الخليجية الأخيرة وما تمخضت عنه تلك الأزمة من وسوم عدة بين مؤيد ومعارض لقطر، فضلًا عن محاولات الاحتلال لإيقاف وسم عهد التميمي، ورفع وسم مسيرة الفوضى، ومحاولة اختراق وسم العودة الكبرى، إلى غير ذلك من الأمثلة التي توضح إمكانية صناعة "التريند" والتحكم فيه.

وبالنظر لما سبق يتجلى ما قد يحدثه الإعلام من تكبير لاتجاه مفتعل، قد يخدم جهة بعينها بعيدة عن الرأي الحقيقي للجمهور، لمجرد سعي الصحيفة للوصول إلى مرتبة متقدمة في مؤشرات البحث.

مسؤولية اجتماعية

أما الجانب الآخر الذي يجب عدم إغفاله عند التعامل مع "التريند" هو أنه حتى في حال اعتباره معبرًا صادقًا عن الرأي العام، هل يمكن اعتباره العامل الأساسي في خلق القضية الصحفية أو الإعلامية؟

وتعتمد الإجابة عن ذلك التساؤل على مدى إدراك الجهاز الإعلامي لمسؤوليته الاجتماعية في الدولة، باعتباره أحد الأذرع السياسية والأسلحة الناعمة دوليًا، والوسيلة الأساسية لبناء الرأي العام وتوجيهه وتثقيفه، والتعبير عنه.

فكثير ما يحمل الوسم المتصدر "التريند" ألفاظاً نابية، أو قضايا غير أخلاقية، لا يمكن الانجراف خلف اتجاهها، مثل وسم الفرقة الغنائية "مشروع ليلى" الذي تصدر تويتر ينادي بحقوق الشذوذ الجنسي، وبدأت وسائل الإعلام التعاطي مع القضية بين مؤيد ومعارض، فاتحة المجال أمام تلك الفكرة للانتشار بشكل واسع.

كما بدأت التبعية المسرفة لـ"لتريند" من قبل المدونين تدق ناقوس الخطر من خواء الوعي العام لدى العديد من الشباب؛ إذ إن كثيراً من حسابات المدونين تحمل وسمًا وعكسه، لمجرد أنه كان في يوم من الأيام تريندًا، فلا يعد من المبالغة أن وصول القضية إلى قمة "التريند" أصبح الباعث الوحيد على التضامن معها أو البحث فيها لدى فئة واسعة من مستخدمي الإنترنت!

فالتدوين أو الإعلام النمطي لابد أن يدرك الدور الحقيقي المنوط به تجاه المجتمع، وتجاه الأمة، فغياب بعض القضايا عن محركات البحث، أو محاولة تغييبها عمدًا من أذهان الناس، لا يعني بحال من الأحوال الانسياق في ذلك . وإلا فما هو واجب القائمين على مجال الإعلام، أو ما هو واجب كل فرد أتيح له التدوين الحر على المواقع المختلفة؟

إن مسؤولية التنوير الفكري، ومقاومة الاختراق الثقافي، بدت اليوم أسهل ما يكون على الفرد؛ إذ لا تكلف إلا بعض ضغطات على لوحات الحاسوب، فكثير من القضايا كمسائل التهويد، أو تسوية القضية الفلسطينية، أو قبول التطبيع، أو أمور التعليم، أو العدالة الاجتماعية، أو الهوية الإسلامية والعربية، بدأت تختفي تمامًا من وسائل الإعلام بحجة أن الجمهور ماعاد يهتم بها!

فأي عاقل يقبل بأن يكون الجمهور منساقًا لحملات غربية، وأحياناً عربية تهدف لتغييب الرأي العام، ثم يأتي الإعلام لينساق خلف ذلك الانسياق، بحجة أن قضايانا لم تعد تريند؟!

كثير من القضايا كمسائل التهويد، أو تسوية القضية الفلسطينية، أو قبول التطبيع، أو أمور التعليم، أو العدالة الاجتماعية، أو الهوية الإسلامية والعربية، بدأت تختفي تمامًا من وسائل الإعلام بحجة أن الجمهور ماعاد يهتم بها

مركز قوة

وبالعودة لقوة تأثير التدوين، لا يستطيع عاقل إنكار ما قد يحققه "التريند" من تأثير قوي على الرأي العام، وبالتالي على صناع القرار. ولعل ثورات الربيع العربي خير مثال على ذلك؛ إذ نجحت أنامل التدوين خلالها في غرس بذرة الثورة السلمية وحشد الحراك الميداني بشكل باهر.

فوصول العديد من القضايا لتصدر "التريند" عبر استمرار التدوين فيها واتساعه يؤدي في العديد من الأحيان إلى تغيير مسار القضية ، وهو ما قد نتلمس نتيجته جلية مع معتقلي الرأي في العديد من الدول العربية.

كما قد تنجح في معارك تغييب الحقيقة التي تشنها القوى العظمى، بكشف الحقائق، والضغط على المجتمع الدولي لصالح القضية، وهو ما يحدث في قضية مسلمي الروهينجا، أو ما يحدث من مجازر بشرية في سوريا.

ونجحت تلك التدوينات في إعادة الأنظار للقضايا المنسية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية؛ إذ أوضح "تريند" عهد التميمي، التفاعل العربي مع اليافعة بشكل أثار حفيظة الاحتلال ما دفعه لنسج الأكاذيب بشأن تدريب الفتاة لتؤثر في متابعيها، وتلقينها بشأن التصوير، وافتعال مواقفها؛ لإيقاف تأثيرها في مسار القضية.

وفي الأخير، لابد أن يدرك كل منّا أنه هو من يحدد ترينده الفكري، وفقًا لمعتقداته ومبادئه، وليس وفقًا لمحرك بحث مدفوع الأجر أو التوجه، كما لابد أن يؤمن الفرد بقوة دوره وعمق تأثيره في المجتمع ولو كان مختلفًا، فإذاً كل فرد منّا يستطيع بقوة خلق الأفكار وتحريكها، فماله باللهث خلف القطيع الفكري أياً كان توجهه!

إن التغيير يمكن أن يكون بأبسط الوسائل المتاحة ولو ببضع حروف زرقاء تدشن وسمًا، يفرض قضايانا العادلة على العالم.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
باحثة مصرية في شؤون الصراع العربي- الصهيوني والقضية الفلسطينية، حاصلة على ليسانس الإعلام من جامعة الأزهر بالقاهرة، كاتبة ومحررة في عدد من المواقع العربية

شاهد أيضاً

التدجين الناعم: كيف يُختطف وعي الأمة؟ (2-2)

تحدثنا - بفضل الله تعالى- في الجزء الأول من هذا الموضوع عن:- توطئة عن الموضوع. …