الجزء الأول من هذا الموضوع كان عبارة عن تصور لرسالة قام فرد (جندي) من كيان بشري بإرسالها إلى رئيسه (قائده) يُصارحه فيها بما يعتمل فكره ويبوح له عما يجول بخاطره عسى أن يجد ضالته عنده.
وفي هذا الجزء سنتناول تصوراً مماثلاً لرد من رئيسه (قائده) على كل ما ورد في رسالة الفرد (الجندي) من نقاط.
ثانياً: رد القائد على رسالة الجندي
قال تعالى: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص 35].
ابني وحبيبي وفلذة فؤادي:
أعلم مدى إخلاصك في كل حرف كتبته وفي كل عَبْرة سكبتها وفي كل زفرة زفرتها من أجل أمتنا وبلادنا.
اعلم أنني معك في نفس الخندق كتفاً بكتف أعيش ظروفك بل أشد ولكن لا ينبغي للأب أن يُظهِر ألمه ولا للقائد أن يُبدي مرارة ما يُقاسيه.
واعلم أن تصبُّرك وتجلدك وتحاملك لتشد عضد من حولك هو من علامات رضا الله تعالى عليك ومن علامات قبول عملك، واعلم كذلك أن الله تعالى مُطلع عليه وسيجزيك عليه خيراً فهكذا يجب أن يكون جندي العقيدة.
ابني وحبيبي وفلذة فؤادي:
إن أنت أخطأت فلك الأجر طالما تبغي بعملك وجه الله تعالى وأنا أثق في مدى إخلاصك فلا تنتظر منِّي تعنيفاً ولا لوماً ولا عِتاباً بل انتظر النصح في الله تعالى لنصل سوياً إلى ما يُحبه الله ويرضى ولا يُوسوس لك الشيطان يوماً أن عبوسي في وجهك بُغضاً بل إفراط حب وغيرة على كل مجهود تبذله وعلى كل فكرة وكلمة ولحظة وخاطرة.
اعلم بُني أن الهمة والعزيمة والوسع والطاقة هبة من الله تعالى يمنحها الله تعالى لكل إنسان حسب إيمانه وصلته بربه فكن أنت ميزان نفسك فإن فترت همَّتك ووهنت عزيمتك وضاق وسعك فارتمي بين يدي ربك لتستمد منه وحده العَون.
إنني يا بُني أعلم جيداً فورة الشباب وحميتهم فلن يُغضبني ذلك ولكن ما أنتظره منك هو سِعة الصدر لنصحي لك وإعمال العقل في إرشادي إياك وإن ارتضيت لنفسك أن تكون لي (سواراً) فأنا سأكون بفضل الله تعالى لك (دِثاراً) يحيطك من كل جوانبك ويخشى عليك من ذرات الغبار ومن دخان النار.
ابني وحبيبي وفلذة فؤادي:
لا أبوح لك سراً إن قلت لك إنني أعتصر ألماً لما تمر به أنت ومن هم في سِنك من أحداث عطلت طاقاتكم وبددت أحلامكم وعرقلت مستقبلكم ولكن كونوا على ثقة ويقين أن هذه هي مرحلة الانصهار والابتلاء التي يليها الاجتباء والاصطفاء.
ولا أبوح لك سراً إن قلت لك إنني أحياناً أمر بنفس ما تمر به أنت من ضعف النفس الأمارة بالسوء ولكن ضع نصب عينيك قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {200} إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف:200- 201].
ولا أبوح لك سراً إن قلت لك إنني -بيني وبين نفسي- أعترف ببعض ما تتهمني به من اتباع الأسلوب النمطي والتقليدي وأجتهد في تغيير ذلك ما استطعت إليه سبيلاً، وأنا انتظر منك أن تضم قوتك إلى ضعفي في هذا الجانب وتقبل أنت حكمتي وخبرتي ومعرفتي بدروب الحياة التي لم تتطرق أنت إليها وبذلك نكون سبيكة تستعصي على الهزيمة وتصارع الأمواج المتلاطمة حتى نصل بفضل الله تعالى سوياً إلى شاطىء الأمان. وأعدك أنني حينها سأسلم لك زمام القيادة وأكون لك حينها الأب الفخور والتابع النجيب والجندي المطيع.
ابني وحبيبي وفلذة فؤادي:
لقد طلبت مني الدعاء لك وهذا من أدب ديننا أن نطلب الدعاء من بعضنا لبعضنا ولكن ثق أن دعائي لك لن ينقطع ولن يتوقف إلا حين يتوقف القلب عن النبض وينسدل الجفن على العين فأنت وإخوانك للقلب نِياطه وللكبد فلذته.
ابني وحبيبي وفلذة فؤادي:
لقد أحسنت عرض حالتك في أدب جَم وذوق رفيع وتربية أصيلة وأرجو أن أكون قد وُفقت في ردي هذا على كل ما يدور في نفسك، واعلم أن المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى.
في نهاية رسالتي أذكرك وأذكر نفسي بقوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].