ينظر الناس للعمر بعدد السنوات، وما علموا أنّ حدثاً نمر به في أيامنا قد يضيف إلى عمرنا أعماراً، وهذا الحدث نفسه هو الذي يجعلك تقف مطولاً عند نص من آية قرآنية أو حديث شريف، وقد كنت نفسك تمر عليه -قبل أيام أو سويعات- مرور الكرام.
وطالما تصفحنا حديث الرسول الكريم: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء) (رواه مسلم).
وكم خطر ببالك سؤال عن تلك الغربة التي ستأتي ونحن في ربوع بلاد إسلامية، بل كم حاولت أن تحيط بتلك الغربة التي عاشها الأولون حيث تحيط بهم قوى الشر والطاغوت من فرس وروم وجاهلية العرب، التي شهدت أول من شهد ميلاد الدين الجديد، وأول من وقف بوجهه وناصبه العداء.
أركان القوى الثلاث تحيط وتطبق على فئة قليلة حملت لواء التوحيد في زمن تعددت به الآلهة، وتبنت دعوة التحرر من كل عبودية لغير الله، فأصبحوا بذلك غرباء في عقائدهم وشريعتهم ودعوتهم وأخلاقهم، بل تعدى الأمر ليصبح الواحد منهم غريباً عن أبويه أو زوجه أو ولده، لدرجة أن يدفع بهم أبناء جلدتهم وقرابتهم وعوائلهم لشِعب أبي طالب، ومحاصرتهم فيه وكأنهم وباء يصيب كل من اقترب منهم، وكم تفطرت قلوبنا أسى وتمزقت أروحنا على معاناتهم! ونتساءل هل تمكنت القسوة من قلوب البشر لدرجة تنسيهم فيها إنسانيتهم وحقوق الرحم والجار؟؟!
وقد أكبرنا -ونحن نقرأ السيرة- أن يحدث هذا أو يتكرر في زمان بلغت به الحضارة والمدنية أوجها، وقد تناسينا أن الجاهلية إن تمكنت من قلب المرء وروحه هوت به إلى أسفل درجات السقوط والانحدار دون أن تعبأ لحضارة أو مدنية!
لقد تناسينا أن الجاهلية إن تمكنت من قلب المرء وروحه هوت به إلى أسفل درجات السقوط والانحدار دون أن تعبأ لحضارة أو مدنية
واليوم وأمتنا على امتداد أرضها وبرّها وجوّها، ولهم من الكثرة مالهم، عادوا كما بدأ الأولون غرباء في أرضهم وبين ذويهم وفي أحضان مجتمعاتهم، وأنّ حضارتنا هذه ما هي إلا شكليات، والروح التي نعاصرها تحمل من الجاهلية ما يفوق الجاهلية الأولى!
لقد باتت أرواحنا في هذا القرن الذي تواجه فيه الثلة المؤمنة أشد الهجمات وأشرسها، ليصبح لهم في كل بلد يقيمون شِعب أبي طالب، ينظر لهم الناظر وكأنهم غرباء في فكرهم وطرحهم ولباسهم ومطالبهم، وكأنهم دخلاء من كوكب آخر جاؤوا للأرض، فباتت أرواحنا وقلوبنا في غربتها مثل جسد خالد بن الوليد، ليس فيه موضع إلا به ضربة سيف أو طعنة رمح.
كل هذا بل وأكثر تشعر به بل تتجرع مرارته، وأنت تجد نفسك تسير بعكس سيل هادر من الجموع الغفيرة، في الشارع، والمدرسة، والجامعة، والأسواق، وفي أماكن العمل والترويح والترفيه، بل في الأتراح والأفراح، غربة تشعر بها عن كل من حولك، بل ينظرون لك على أنك الغريب ليصارحك أحدهم ومباشرة ودون تحرج إذا عرض عليك نفس أرجيلة أو سيجارة من علبة سجائره واعتذرت أنت بدورك -ليقول لك: أوَ لا تجد نفسك غريباً بما زلت تتمسك به من مبادئ وقيم! والأدهى والأمر أن يكون هذا في جلسات الشابات والنساء!
أي سياط من الغربة تجلد ظهرك يا مسكين في هذا الزمن الذي ينظر إليك به من حولك بأنك غريب، نعم لقد أصبحت غريباً عن رفقاء الدرب وصحبة الصبا وأصدقاء الطفولة وشركاء العمر حتى ما بعد سنوات الجامعة، لتجد نفسك وكأنها التي يعنيها الرسول صلى الله عليه وسلم: (يَأْتِي على الناس زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ على دِينِهِ كَالْقَابِضِ على الْجَمْرِ) (رواه الترمذي).
ويحدث أن تقف على مفترق طرق مع كل أولئك الذين شاركوك حلو الحياة ومرها، وطالما وحدتكم أحلام الصبا وآمال الشباب وأهدافه، فإما السير بركابهم، وتذوق مذاق الحضارة والتقدم والمدنية التي رشفوا منها وما زلت أنت محروماً من تذوقها، أو أن تبقى متفرداً على ما أنت عليه، تتحمل في سبيله كل أطياف الغربة وآلامها، وإضافة إلى ذلك تتحمل أوجاع نفسك التي تتقطع إرباً على ما صاروا إليه، ولسان حالك يهتف بهم: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}[سورة غافر:41]، {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ}[سورة هود:42].
وتسير في دربك تثقلك الجراح، وتحاول أن تصبر من عزيمتك، وتصد من تقدمك عثرات اليأس والكمد، وتوهِن من إرادتك آلام الغربة والوحدة، فيلوح لك من بعيد نور في دروب غربتك يحاول أن يشعل شعلة على الدرب رغم رياح الغربة الهائجة، فترنو إليه كما يرنو المسافر في عتمة الليل لساطع الأفلاك، وتتآلف روحك مع روحه، ويتحد قلبك مع قلبه، وتضم شعلتك إلى شعلته، مع أنك قد لا تبصره ولا تراه، فثمة حدود في الأرض تحول بينك وبينه، مع ذلك تتآلف الأرواح والقلوب كما تتآلف أشعة النور؛ لتكون كما الشمس المشرقة في النهار، أو كما القمر سطوعاً في الليل، وهكذا فوق كل أرض وتحت كل سماء ثمة نور وقبس من ضياء غريب في أرضه وبين أهله، يواجهون بارتقاء أرواحهم وقبس ضيائها ظلام الانحطاط الذي جلبته لنا ثقافة العصر.
فوق كل أرض وتحت كل سماء ثمة نور وقبس من ضياء غريب في أرضه وبين أهله، يواجهون بارتقاء أرواحهم وقبس ضيائها ظلام الانحطاط الذي جلبته لنا ثقافة العصر
فيخفف من حدة آلام غربتك ووجع عثرات دربك وجود من هم مثلك ممن يحمل الهم ويأخذ على عاتقه مسؤولية حمل اللواء وإضاءة الدروب، فتأنس روحك بأنفاسهم العطرة والتي لن يخلو منها زمان أو مكان مهما اشتدت الظلمات، وتعيش بروحك وقلبك وجسدك ما عاشه الرعيل الأول من صنوف الابتلاءات، وتدرك في قرارة نفسك أن ثمة أنصاراً في كل زمان، سيشدون من عضدك وينصرون دعوتك، وتجمع روحك بأرواحهم وقلبك بقلوبهم عقيدة الإخاء التي تتجاوز حدود النسب والدم والزمان والمكان، تأوي إليهم ويؤثرونك على النفس والأهل والولد، وأنت تؤمن يقيناً ويزيد من إصرارك وإيمانك -بكل ما تحمل رغم كل الآلام- قولُ الإمام مالك: "لن يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، فتبقى كما أنت، ما زال فيك نفس يتردد، حتى يبلغ هذا الأمر بعز عزيز أو ذل ذليل، أو أن تهلك دونه!