ما من عبدٍ إلا وهو بحاجة إلى الصبر، فالجزع وانعدام الاحتمال والتجلّد؛ يؤديان إلى نتائج غير محمودة على الصعيد الشخصي وعلى صعيد الجماعة، والله سبحانه يقول: {وإنْ تصبروا وتتقوا لا يضرّكم كيدُهم شيئاً} [آل عمران:120]، فعلّق وقوع الضر من عدمه؛ على توفّر الصبر والتقوى أو انعدامهما.
والصبر لم يكن قريناً للتقوى في هذه الآية فحسب، فالله تعالى يقول في آية أخرى: {بلى إنْ تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يُمْدِدْكُم ربُّكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين} [آل عمران:125]، ومفهوم المخالفة يقتضي توقف المدد إنْ لم يكن ثمة صبر وتقوى.
ويقرر القرآن الكريم أن الصبر مع التقوى من الأمور التي يُعزم عليها، ويُتنافس فيها ، حيث قال سبحانه: {لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإنْ تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} [آل عمران:186].
وكأن الله جل وعلا يريد أن يقول لنا: إن الصبر على البلاء طاعة لا تكتمل حلقاتها حتى تُتبَع بطاعة أخرى، وهي التقوى ولزوم العمل الصالح، واقرأ إنْ شئت قوله تعالى: {إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجرٌ كبير} [هود:11].
وهذا هو منهج الإسلام الذين يقرن دوماً بين القول والعمل، ويدعو إلى العمل المتواصل، والحركة المستمرة، والجهد الدؤوب الذي لا يعرف الكلل، والتنويع في الطاعات، والأخذ بالواجبات جميعها من غير تفريق بين واجب وآخر.
فالصبر ليس دعوة إلى الجلوس في البيت وندب الحظ، والبكاء على نوائب الدهر.. وإنما هو احتمال وتجلّد، مع عمل هادئ حذر للوصول إلى رفع البلاء، ودفع الفتنة.
الصبر ليس دعوة إلى الجلوس في البيت وندب الحظ، والبكاء على نوائب الدهر.. وإنما هو احتمال وتجلّد، مع عمل هادئ حذر للوصول إلى رفع البلاء، ودفع الفتنة
ولا يستدلنّ أحدٌ بموقف يعقوب عليه السلام عندما جلس في بيته يبكي حتى ابيضّت عيناه من الحزن وهو كظيم.. فيعقوب عليه السلام كان قد كبِرت سنّه، ووهن العظم منه، واشتعل رأسه شيباً، فلم يكن يملك أن يفعل شيئاً سوى الصبر والدعاء، إلا أنه مع ذلك كان يحرّض بنيه على الذهاب إلى مصر والبحث عن يوسف وأخيه، محذّراً إياهم من أن يصيبهم الإياس من العثور عليهما، {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87].
ولا يركننّ آخرُ إلى قصة أم موسى، فهي الأخرى لم تكن تملك شيئاً إلا الصبر، وحين ألهمها الله سبحانه أن تلقي موسى عليه السلام في اليمّ؛ قامت بما تقدر عليه من العمل، وهو توجيه ابنتها إلى تتبّع أثر موسى {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:11]، وكان هذا التتبّع سبباً في رجوع موسى إلى أمه سالماً معافى.
والصابرون دائماً عاقبتهم محمودة، في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يأنس الصابر بالقرب من الله تعالى، ويشرُف بمعيته، وترد إلى قلبه أنوار الطمأنينة واليقين.. وأما في الآخرة؛ فيوفى أجره بغير حساب.
الصابرون دائماً عاقبتهم محمودة، في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يأنس الصابر بالقرب من الله تعالى، ويشرُف بمعيته، وترد إلى قلبه أنوار الطمأنينة واليقين.. وأما في الآخرة؛ فيوفى أجره بغير حساب
إن الفقير الذي لا يجد قوت يومه، ويطوي ليله يتلوى من الجوع؛ يحاول تسكيت أمعائه بكسرات من الخبز الجاف الذي يلتقطه من أمام بيوت الناس، وقد تفرّق عنه أبناؤه وأقاربه بعد أن كبرت سنّه، وهشّ عظمُه، وأقعدته الأمراض عن ممارسة عمل يتكسب به.. هنيئاً له إن صبر، فالله مع الصابرين وإن تخلّى عنهم أحبّ الناس إليهم .
وإن المجاهد الذي يرابط فوق الجبال وفي الخنادق والمُغُر، يكابد الحر والقرّ، ويدَع خلفه زوجته وأولاده موقناً بينه وبين نفسه أن الله لن يضيّعهم؛ فهو لم يفارقهم لقسوة في قلبه، أو لزهد في العيش الهانئ معهم، أو لدنيا يصيبها حيث خرج، وإنما غادرهم وهم نائمون خشية أن تُقعده رؤية عيونهم وهم يرقبونه أثناء لحظة الرحيل عن المضي في طريق التضحية والفداء.. غادرهم متلفعاً بحلكة الليل وعبراته تنهمر حزناً، وفؤاده يتفطر ألماً على لحظات الفراق العصيبة.. وفي الميدان يقف ثابتاً كالضرغام، لا يخيفه أزيز الطائرات، ولا يأبه للقنابل حيث تسّاقط حوله من السماء، وإذا ما أصابته الشظايا حزنَ أن لم تُصبْهُ في مقتل.. هنيئاً لهذا إذ صبر، فالله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب.
وإن الأم إذ تفارق ولدها، والأب إذ يفقد فلذة كبده، والزوجة التي يغادرها زوجها زمناً طويلاً لا تُعلم نهايته.. كل حبيب يفارق حبيبه، وتصير الدموع رفيقه الذي لا يغادره حتى يظفر بلقيا الحبيب، ولا يشكو بثه وحزنه إلا إلى الله، ولسان حاله يقول: {فصبرٌ جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم} [يوسف:83].. هنيئاً لمن هذه حاله إن صبر وقال كما قال الصابرون من قبل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فـ"أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون".
الصابرون يا لهناءتهم حينما تلامس أسماعهم هذه الكلمات، وتنزل على أفئدتهم كحبات الندية الرقيقة الأنيقة.. {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24].