لوثة الإلحاد الحديث

الرئيسية » خواطر تربوية » لوثة الإلحاد الحديث
youth17

أكثر ما يكون الإنسان عرضة للأمراض تنهش وتدك من جسمه أعراضها وآثارها عندما يضعف جهاز المناعة في جسمه، والأمم كما أجسام البشر تجري عليها سنن المرض والاعتلال، وأشد ما تكون في مرضها عندما يصاب جهاز المناعة فيها، فتفقد قدرتها على مواجهة الدخيل من الفيروسات والجراثيم الناقلة للأمراض الخطيرة منها والبسيطة .

والناظر المتفكر بحال أمتنا اليوم يدرك أي أمراض تدك في جسدها وتنهش من روحها، ولا سيما وجهاز المناعة -جيل الشباب- خط الدفاع الأول فيها قد أصيب إصابة مباشرة أفقدته قدرته -لحدٍّ ما- عن النهوض ومواجهة ما يغزوه أمته من جراثيم تنشر فيها الأدواء، بل تراه يشرع منافذه لإدخال كل وافد دون أن يجري عليه فحوصات السلامة واختبار الصلاحية والنفعية، ولم يأت استهداف جهاز المناعة للأمة عبثاً، وإنما أدرك العابثون أهمية جيل الشباب، وكونه اللبنة الأساسية في بناء الأمم ورقيها وحضارتها، فصوبوا إليه نبالهم.

لم يأت استهداف جهاز المناعة للأمة عبثاً، وإنما أدرك العابثون أهمية جيل الشباب، وكونه اللبنة الأساسية في بناء الأمم ورقيها وحضارتها، فصوبوا إليه نبالهم

ولو اجتزأ القارئ القليل القليل من وقته ليلقي نظرة عبر التاريخ ما للشباب من أهمية إذا وضحت أهدافهم، وسمت غاياتهم، وتوحدت مشاربهم ومقاصدهم، لأيقن أنه ليس ضرباً من العبث أو الصدفة يُميع الشباب، وتُشتت أهدافهم، وتُبدد طاقاتهم، وتُستنزف قواهم في حلقة مفرغة من الفراغ المميت، بل ويستثمر عنفوانه وطاقاته في سفاسف الأمور، وفُصلت لهم اهتمامات وأهداف وضعها خبراء ومهندسون في انحطاط البشرية والهوي بها من معالي الأمور لأسافلها، فاستُوردت لهم الأفكار كما استوردت لهم الملابس وموضات قص الشعر، بل حتى أمراضهم وعقدهم النفسية لم تكن مصدرها البيئة التي يترعرعون بقدر ما كانت من مشاكل البيئة التي تُصدّر لهم، وتسلّط الأضواء عليها على أنها رائدة المدنية والحضارة والتقدم والرقي.

وقد يتبادر لذهن القارئ في الوهلة الأولى أنّ الحديث يبعث على التشاؤم وندب الحظوظ، أو أنني تجاهلت أن الخير في هذه الأمة قائم لقيام الساعة، ولكن من يظن ذلك فقد غفل وتجاهل أن معرفة الداء والإقرار به يحمل من التفاؤل ما يحمل؛ إذ إن معرفة الداء نصف الطريق للعلاج .

والذي بعث على هذا المقال ما يتردد ويجول في فكر الشباب اليوم وما يتخبطون به من ضياع في الفكر والروح والسعي، إذ في فترة متقاربة وفي الآونة الأخيرة وجدت نفسي أواجه ومن نفس مرحلة العمر، شباباً من الذكور والإناث يسألون ماذا لو كانت هذه الحياة لا دار بعدها؟! ماذا لو لم يكن بعد الموت ثمة بعث أو جزاء أو حتى إله يحاسب ويجازي المحسن والمسيء؟! بل وُجّه لي السؤال مباشرة من شاب أهلكت فتوته توهانه في سبل متفرقة، ونزع من ملامحه بريق الحياة وعنفوانها انغماسه في ضلال الشبهات والشهوات، وأضاع سنوات عمره بلا غراس من علم أو عمل، لتتبدل ساعات ليله لنهار، ونهاره لليل بلا فائدة تُرجى لدينه ودنياه، وقد سبق سؤاله أسئلة أخرى من الجنس الناعم اللطيف، الذي من المفروض أن يكون أكثر رقّة وحساسية بمثل هذه الأمور-لكن الأمراض إذا نهشت جسماً لا تفرّق فيه بين شاب وصبية، فكيف إذا جاء هذا المرض والداء تفصيلاً على قياس كل واحد منهما، ونحن في غفلة من أمرنا!

وجه لي سؤاله ليلخص لوثة الإلحاد التي تعصف بشبابنا قائلا لي: "ماذا لو وجدت بعد موتك وقد ألزمت نفسك فروض الإسلام الذي قيدت وكبلت من حريتك، كتقييد نفسك بالحجاب، وإرهاق جسدك بسائر العبادات، و و و وأمور أخرى قام بتعدادها، ماذا لو وجدت أنّ لا شيء مما تعتقدين من جنة ونار ويوم قيامة وحساب؟!"، واجهته بابتسامة الواثق المطمئن وقلت له: "من بديهيات العقل أنّ لا شيء يوجد دون موجد، وأنّ ما في الوجود من أصغر موجوداته لأكبرها لم يوجد عبثاً، تماماً كما أجزاء جسدك، ولن أخوض معك بأدلة تثبت لك صدق ما أقتنع؛ لأنك لست مستعداً لفتح منافذ عقلك وبصيرتك، وإنما سأرد عليك بمنطق فرضيتك أنّ شعوري لن يكون أسوأ من شعورك عندما تموت وتجد أنك أمام حقيقة طالما شواهدها كانت بين يديك، ولكنك أغفلتها بتعنت فكرك، بل باستسلامه لزيّ الإلحاد الذي أقبلت عليه وارتديته تماشياً مع من ارتضيتهم بأفكارهم ولوثاتهم آلهة متعددة تفصل لك في كل يوم قيمة وفكرة ترتديها صباحاً وتخلعها مساءً".

ووقفت هنا وطالما خاطبت مثل هؤلاء انظروا بعيني رؤوسكم أنتم وتفكروا ببصائركم وعقولكم لا بعقول استوردتموها من هنا وهناك، ماذا يحمل الإسلام من تعاليم فيها من الغرابة ما تستنكرها الإنسانية، وتستهجنها الفطرة السوية؟ 

أليست مكارم الأخلاق التي يدعو لها الإسلام إنما هي من تمام إنسانية الإنسان؟

أليس الصدق والوفاء والمساواة والمحبة والتعاون وأداء الحقوق والعدل ونبذ العنصرية والعصبية -كل هذا وغيره مما يتشدق الغرب بادعائه والسير على خطاه والتنظير له- شعارات بعيدة كل البعد عن واقع حياتهم وسلوكياتهم؟

أليست مثل هذه القيم والمُثل إنما هي قاعدة عريضة في هذا الدين الذي تجابهونه وتتنكرون له؟

ألا تمدحون الغربيّ عندما يكون صادق الوعد وفيّ العهد دمث الخُلق؟

أو ليس هذا جزءاً أساسياَ وركناً أصيلاً من الإسلام الذي تتهمونه بالرجعية وبالعبث وسلب الحريات وتقييدها! أم أن شيوع الجنس وممارسته بلا نطاق وحدود حرية وتقدم، وتنظيمه وفق سياج الأسرة كل فرد فيها له ما له وعليه ما عليه من حقوق وواجبات -في نظركم تخلف ورجعية!

ثم ما الأمثل بالله عليكم -يا من تدعون نورانية الفكر وتحرره بلا عقد- أن نتوجه بمقاصدنا وغاياتنا ونأخذ تعاليمنا وأوامرنا من واحد أحد، أم أنّ الأمثل تشعب الفكر والهدف والإرادة كل يوم وراء داعٍ يهدم ما قد أسس له سابقه؟!

ما الأمثل يا من تدعون نورانية الفكر وتحرره بلا عقد، أن نتوجه بمقاصدنا وغاياتنا ونأخذ تعاليمنا وأوامرنا من واحد أحد، أم أنّ الأمثل تشعب الفكر والهدف والإرادة كل يوم وراء داعٍ يهدم ما قد أسس له سابقه؟!

ثم إن كان في اللباس الذي يرتضيه الإسلام ويستر سوءاتنا وعوراتنا، ويصون أجسادنا من لصوص الحياء تخلّف ورجعية، فهل المدنية عندكم التحرر من الستر ما تأنفه حتى الحيوانات العجماوات، واستنكره الإنسان الأول رغم بدائيته!

أي لوثة من الجاهلية والإلحاد والتيه الذي يتخبط به شبابنا وأجيالنا! ألم يستوقفهم ويسترعي انتباههم ويستثير فكرهم تلك المرأة التي جاءت تبايع رسول النور والسلام، فقبضت يدها عندما بلغ النبي الكريم من المبايعة بند (وألا تزنين) فقالت واجمة: "أو تزني الحرة يا رسول الله"؟!

فقد استنكرت هذه المرأة وقد انتقلت للتو من الجاهلية الأولى، فقد أنفت فطرتها السليمة مثل هذه الأمور بل استنكرت أن يعرض النبي صلى الله عليه وسلم هذا ضمن بنود بيعته؛ لأنها في سلامة فطرتها بديهة من البديهيات التي لا تفريط فيها.
ثم أليس انحطاط أمتنا وتخبطها في سنوات التيه هل هذا كله إلا جراء انحلالها من ربقة الدين وركوبها موجة اللادين أو حصره فيما يكون بين العبد وربه؟

أليس انحطاط أمتنا وتخبطها في سنوات التيه هل هذا كله إلا جراء انحلالها من ربقة الدين وركوبها موجة اللادين أو حصره فيما يكون بين العبد وربه

فإذا كان الشباب قد جربوا واعتنقوا كل وافد وأقبلوا على كل جديد أما آن لهم أن يقفوا لحظة صدق مع أنفسهم، ويفسحوا المجال، ويعطوا أنفسهم فرصة أن يجربوا هذا الدين كما نزل من مصدره لا كما أظهرته الأهواء والظنون، فيحكموا عليه من الداخل، ويتخلوا عن الحكم مسبقاً، بل من باب أولى أن يكوّنوا نظرتهم هم عنه بعد معاينته على أرض الواقع وتجريبه حياً لا نظريات وشعارات بدلاً من أن يستوردوا حتى نظرتهم وأفكارهم عنه استيراداً فتكون أصواتهم أبواقاً وأصداءً لأصوات غيرهم لا أصيلة عنهم!

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

كيف يكون التسليم الصحيح لله تعالى، بين الإيمان والتخاذل؟

إن التسليم لله تعالى لا يدعو أبدًا للتخاذل والإخلاد للأرض، بل هو الباعث على القوة …