غني عن الذكر أنه في القرآن الكريم، والسيرة النبوية الكثير من الرسائل الربانية، والدروس الحياتية لمن كان له قلب. وفي هذا المقال سنركز على عرض أساليب استقيناها من بعض آيات الكتاب الحكيم وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، من شأنها المساعدة على حل الخلافات وتحسين طرق التواصل، سواء في العلاقات الإنسانية بشكل عام. وأثناء ذلك العرض، سنعمل على شرح كيفية تطبيق تلك الأساليب الحكيمة في الحياة الواقعية، والمعاملات الإنسانية:
أولًا- أسلوب العتاب الفعال
{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا(92)أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي(93)قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}. [سورة طه:94].
في هذه الآية، يعاتب موسى أخاه هارون عليهما السلام، حين لم يَتبَعْه بعد أن قرر بعض بني إسرائيل عبادة العجل. ونلقي الضوء هنا على أسلوب هارون عليه السلام في الرد على استياء أخيه منه. فعتابه ورده على أخيه موسى عليه السلام، يعتبر من أرقى أنواع العتاب، وأشدها تنسيقًا. حيث جاء العتاب مقسمًا على عدة أجزاء، ولكــــل جزءٍ هدف معين ومحدد. وهنا سنعرض لمراحل العتاب، وكيف تم تطبيقها من خلال مَثَل سيدنا هارون، وما كان الهدف من كل جزء وعبارة:
الجزء الأول- استخدام نداء التقريب:
تمثل ذلك في القسم الأول من خلال ندائه لموسى عليه السلام: {يَا ابْنَ أُمَّ} والهدف: تهدئة أخيه والتقرب إليه وامتصاص الغضب. فنلاحظ هنا أن هارون عليه السلام لم ينفعل على أخيه، وإنما ناداه بما يقرب بينهما ويذكرهما بأواصر الأخوة.
الجزء الثاني- طلب ما نريد أو النهي عما لا نريد:
وهذا هو القسم الثاني من العتاب {لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي}، فبعد أن نادى هارون أخاه بنداء لطيف، طلب منه "برفق" -وهذا واضح من طريقة النداء الأولى- ألا يجذب لحيته.
الجزء الثالث والأخير- تبرير التصرف:
بداية نَودُّ الإشارة أنه من الناس من يظن أن رغبة بعض الأطراف في تبرير التصرفات هو واحد من أسباب الخلافات، غير أن طريقة التبرير، والألفاظ، والنبرة المستخدمة كلها عوامل أساسية قد يكون لها أعمق الأثر من التبرير نفسه، بل قد تسهم في حل المشكلات وإزالة سوء التفاهم. ففي الجزء الثالث من العتاب، يقول هارون عليه السلام: {إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}. فقد برر هارون عليه السلام موقفه دون أي هجوم أو انفعال أو اجترار للماضي. بل كان تبريره أقرب لاستدرار العطف منه إلى الهجوم. فاستخدم "خشيتُ"؛ ليدل على حرصه على مصلحة أخيه، ورغبته في مساعدته.
من الناس من يظن أن رغبة بعض الأطراف في تبرير التصرفات هو واحد من أسباب الخلافات، غير أن طريقة التبرير، والألفاظ، والنبرة المستخدمة كلها عوامل أساسية قد يكون لها أعمق الأثر من التبرير نفسه
ووضح لأخيه الأسباب التي أدت إلى تشتته، وتحيره بين أمرين، لم يدر أيهما يتوجب عليه القيام به: أَيَلحق بأخيه؟ أو يبقى مع بني إسرائيل الذين رجع بعضهم عن دين الله؟ كما بيَّن هارون عليه السلام السبب الذي دفعه لأن يُؤثِر البقاء على الذهاب. فيتبين هنا أن اختياره كان مبنيًّا على أساس عقلاني ومنطقي. كما رأى هو أنه يراعي أخاه موسى عليه السلام من خلال مراقبته للقوم، ولم يكن عنده أي نية لعصيان الأمر وإغضاب أخيه.
وإذا حاولنا تطبيق هذا النموذج في العتاب والتبرير لَقلَّت الخلافات والشجارات. فتخيلوا مثلًا لو أن والدين يرغبان في تسجيل طفلهما في إحدى المدارس، واتفقا مع المَدرَسة على تاريخ معين للتقديم، ثم لاحقًا، تواصلت المدرسة مع الأم وأعلمتها بتقديم الموعد وإلا فاتت فرصة التسجيل في المدرسة، علمًا بأن التسجيل في المدارس الأخرى ليس متاحًا (لِنَقُل لأسباب ناقشها الزوجان آنفًا واتفقا عليها). فتحاول الزوجة الاتصال بزوجها في عمله، فلا يرد، فتقرر هي الذهاب وحدها للتسجيل.
فلنتخيل أن ردة فعل الزوج لاحقًا جاءت كالتالي:
" ألم أخبركِ أننا سنذهب معًا، إنك لا تستمعين إلى كلامي كعادتك؟!"
ثم إذا تخيلنا الرد التقليدي "للأسف" والذي من شأنه أن يشعل فتيل الشجار:
" طلبتكَ ولم ترد عليَّ، من الواضح أن عملك أهم من أسرتك! أنا المخطئة لأني حريصة على مصلحة ولدك، و...إلخ".
سنجد هناك أن الهجوم وسَّع دائرة الخلاف إلى مواضيع أخرى لم تكن من نية أي من الزوجين الخوض فيها أو مناقشتها، كعدم طاعة الزوجة، أو اهتمام الزوج!
بينما إذا طبقنا أسلوب هارون عليه السلام، فعتاب الزوجة وتبريرها قد يأتي كالآتي:
"رجاء لا تنفعل واسمعني، قد حادثتك بالفعل لأن رأيك مهم، ولكنك لم ترد. ثم إنني خشيت أن تَضِيع علينا فرصة التسجيل، وقد اتفقنا سلفًا على صعوبة التقديم في مدراس أخرى".
ففي الغالب، هذا الرد سيكون أكثر حكمة وتفهمًا، وامتصاصًا لغضب الزوج، ولا يحمل أي نوع من الهجوم على الطرف الآخر، وبالتالي ستصير النتيجة في معظم الأحيان هي أن يتفهم الطرف الآخر الموقف.
ثانيًا- أساليب الاقتراح
1- أسلوب الاقتراح "بالأسئلة":
وهذا ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، حين يذكر لأصحابه معلومة جديدة، أو عملًا فيه أجر، أو حين يرغب في تشجيع أصحابه على طاعة الله وطاعته، أو غيرها من الأمور، وهذه بعض الأمثلة:
عمل مصحوب بأجر:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ: (أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؟ وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ) (رواه البخاري).
التشجيع على طاعته:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أَبى. قالوا: يا رسول الله، ومَن يأبى؟ قال:مَن أطاعني دخل الجنة، ومَن عصاني فقد أبى). (رواه البخاري).
ونخلص من تلك المواقف أنه يفضل أن تكون الطلبات في شكل أسئلة واقتراحات لا أوامر ونصائح. وكذلك حبذا الحرص على استخدام العبارات الحيادية، مثل أن يقترح ابن على والده:
• "سمعت أن تلك الشركة جيدة، وفرص العمل فيها متاحة، ومرتباتها مناسبة للغاية، وأنا أتمنى العمل فيها، فماذا ترى أنت يا أبي ؟" وهكذا...
أو أن يقترح صديق على صديقه أمرًا فيقول:
• "ما رأيك أن نسافر هذا الصيف إلى مكان كذا؟"
يفضل أن تكون الطلبات في شكل أسئلة واقتراحات لا أوامر ونصائح
2- الاقتراح باستخدام أسلوب حاشية بلقيس:
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ(32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [سورة النمل:33]
ففي تلك الآيات نرى كيف طلبت الملكة بلقيس من حاشيتها المشورة والنصيحة. وكيف حرصوا هم على تقديم وجهة نظرهم بصورة غير مباشرة، فلم يقولوا: "نحن نرى كذا وكذا". وإنما قالوا وجهة نظرهم على طريق التعليل: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ}، أي أنهم يقترحون القتال، ولكنهم لم يعلنوا هذا صراحة. وإنما اقترحوا الأمر بصورة غير مباشرة، وأبدوا السبب الذي يؤيد وجهة نظرهم وهذا يدل على الحنكة والذكاء. ثم بعدها، تركوا الأمر لملكتهم بلقيس لتقرر هي.
كيفية تطبيق هذا الأمر في الحياة الزوجية مثلًا:
إذا خَيَّر الزوج زوجته مثلًا بين الهجرة والبقاء في بلد ما، ولنقل أن الزوجة تؤيد الهجرة، فبتطبيق قاعدة "حاشية بلقيس"، يمكن أن يكون الاقتراح كما يلي:
" السفر يفتح الكثير من الآفاق وأبواب الرزق. لكن الرأي رأيكَ في نهاية المطاف".
فهنا لم تقم الزوجة بعرض وجهة النظر بأسلوب مباشر، ولكن يُفهَم من كلامها أنها تؤيد السفر. ثم إنها بعد ذلك تركت تصريف الأمور للزوج. ففي جملة واحدة، ضربت الزوجة عصفورين بحجر واحد: أبدت وجهة نظرها، وتركت الحرية للزوج. والأهم أنها قطعت أي سبب للجدل والخلاف.
تظل الخلافات من الأمور المعرقلة لأية علاقة إنسانية سوية أو وطيدة. كما يبقى الحوار الراقي الباب الذي يمكن أن يدخل فيه الراغبون في حل خلافاتهم، والوصول لحلول وسط تُرضي جميع الأطراف ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.