صحيحٌ أن للعلم مكانة رفيعة، وفوائد جليلة ترفع العبد درجات في الدنيا والآخرة؛ إلا أن له آفات أيضاً تهوي به إلى ما دون مواقع الجهال.
من أخطر آفات العلم؛ العُجب والغرور ، فأنت ترى بعض علماء الحديث مثلاً ينظرون إلى الآخرين نظرة استعلاء؛ لأنهم حازوا ما لم يحوزوا، وهو معرفة صحيح الأحاديث من سقيمها، في الوقت الذي يُكْثر غيرُهم من الاستشهاد بالأحاديث الضعيفة وإيرادها موارد الصحيح الذي يصلح للاستنباط والاستدلال.. فهم في نظر أنفسهم أعلم أهل الأرض، وأقربهم منزلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يعتنون بمعرفة سُنّته أكثر من الفقهاء والمفسّرين وغيرهم.أما بعض المفسّرين فيَرَون أنهم هم الذين عقلوا عن الله سبحانه معاني كلماته، وشرفوا بهذه المعرفة الجليلة التي زهد فيها الآخرون، فهم وحدهم أهل الله وخاصته، ومن سواهم هاجرون لكتاب الله تعالى، مشتغلون ببنيات الطريق عن وسطها، جاهلون بدقائق التفسير التي بمعرفتها تنتصر الأمة وتعلو رايتها.
ولو حوّلت بصرك إلى الفقهاء؛ لوجدت فيهم كثيرين يعتقدون أنهم ملكوا أدوات الفهم السديد، والفقه الرشيد، والبصيرة التي تؤهلهم لقيادة الأمة والأخذ بزمامها إلى مراتب العلا والسؤدد، فهم الأمل الوحيد دون أصحاب العلوم الأخرى.
أما الفقهاء فيما بينهم؛ فربما رأيت منهم من يرى في ترجيحاته الحق الذي لا محيد عنه، وما القائلون بخلاف قوله إلا أناساً لم يصلوا إلى مرحلة الفتوحات الربانية التي منّ الله بها عليه، وجعلته مُمسكاً بخطام المسائل جليلها ودقيقها.
حقاً إنك لتغرق في بحر من العَجَب، من بعض علماء الشريعة الذين يزهون عُجباً لأنهم تمكنوا من علوم القرآن والسنة، في حين عَرَفَ غيرُهم من علماء الكيمياء والفيزياء والأدب؛ أنهم كلما ازدادوا علماً ازدادوا معرفة بجهلهم أمام علم الله جل جلاله.. فما زادهم العلم إلا تواضعاً.
ومن آفات العلم؛ أنه أصبح عند كثيرين طريقاً ممهّدةً للتكسّب وجمع الأموال، فما أكثر الكتب التي يؤلّفها مَن يُنسب إلى العلم طلباً للفانية، حيث أذهب بريقُ المعادن الثمينة ما كانوا يتشدقون به من حب الدعوة ونشر العلم، لتتحول نصوص الوحي وكلمات العلماء الربانيين إلى سبيلٍ لتشييد القصور العالية الشأن.
ومن آفات العلم؛ أنه أصبح عند كثيرين طريقاً ممهّدةً للتكسّب وجمع الأموال
ولقد وصل الأمر ببعضهم أن يوقّع عقداً ببيع حقوق طباعة كتاب لإحدى دور النشر، وبعد أن قبض الثمن؛ سارع إلى توقيع عقد آخر مع دار نشر أخرى ببيع الكتاب نفسه ليقبض عليه ثمناً آخر.. ثم يقول: الدعوة همّي، وإصلاح الناس غايتي!!
ومن آفات العلم أن بعض متلقّيه اتخذوه سبباً للتخلّص من الواجبات، والتوسّع في إباحة ما حرّم الله تعالى؛ بتتبّع زلات العلماء والأخذ بها، والتحكّم بالنصوص الشرعية لتسويغ ذنوبهم التي دعاهم إلى ارتكابها الهوى وحب الدنيا.
من آفات العلم أن بعض متلقّيه اتخذوه سبباً للتخلّص من الواجبات، والتوسّع في إباحة ما حرّم الله تعالى؛ بتتبّع زلات العلماء والأخذ بها، والتحكّم بالنصوص الشرعية لتسويغ ذنوبهم
أحدهم مثلاً يحرّم (الفوائد) البنكية، ويصفها بالربا المحرَّم، ثم إذا ما احتاج إلى أخذ قرض لشراء سيارة أو منزل؛ اتخذ النصوص الشرعية متكأً يتكئ عليه لتحليل ما كان حراماً بالأمس، وأصبح يضع القواعد الفقهية في غير موضعها، فيقول مثلاً: (الضرورات تبيح المحظورات)، ونسي أن (الضرورة تقدَّر بقدْرها) كما يقول أهل العلم.. كل هذا ليُرضي شهوة نفسه وهواها.
الواقع ليس قاتماً إلى درجة يُقال فيها: هَلَكَ الناس! إلا أن ذلك لا يعني أن المصابين بآفات العلم قليلون! فهم كثيرون .. وربما أكثر مما نظن.ربما يقول البعض: هذه ليست آفات للعلم، وإنما هي آفات في نفوس من وصفتَ من متلقّي العلم.
فأقول: ربما يكون هذا صحيحاً، وربما لا يكون، فقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع، وفي زماننا هذا ما أكثر العلوم التي لا تنفع، ولا تزيد صاحبها من الله إلا بُعْداً..