ستظل الحياةُ المدرسةَ التي ننهل من موائدها، وتصوغك تجاربها، وتصقل شخصيتك سِيَرُ السابقين وتجارب اللاحقين، تقدم لك ما يفوق ما قدمته لك تلك الشهادات التي يتطاول بها الإنسان تطاولاً ينسيه فصله وأصله.
وهي نفسها الحياة التي تغرّ أحدنا لدرجة أن ترفعه لنقطة لا يرى من خلالها أحداً سواه، وفجأة تهوي به على أم رأسه، وكأنها تقول له: عش كيفما أردت، وتكبّر كيفما شئت، ومهما كنت أو ستكون ما أنت إلا من تراب وإليه تعود!
وهي نفسها الحياة التي عرضت حالها بكل زينتها وشهواتها كامرأة العزيز على ثلّة لم تستطع -رغم كل مفاتنها- أن تخطف أبصارهم، أو تأسر ألبابهم، فما كان من سيد الخلق إلا أن قال: (إنما أنا بن امرأة تأكل القديد) (رواه ابن ماجه). وهذا عليٌّ رضي الله عنه يقول لها مخاطباً: "إليك عنّي يا دنيا، غرِّي غيري، إليَّ تعرّضت أم إليَّ تشوّقت؟ هيهات هيهات! فإنّي قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير".
هذه الحياة بظروفها وأحوالها وأحداثها تعيد نفسها وتكرر أحداث التاريخ على صفحتها، وهي نفسها تقدم لك خلاصة تجارب السابقين الذين إن اقتفيت آثارهم أفلحت وفزت وتجنّبت كثيراً من السقطات التي كنت ستقع بها لو سايرت هوى نفسك ومزاجها، ولو تفكرت بسيرة المصطفى وألزمت نفسك باتباع أمره واجتناب نهيه لوجدت آثاره ووحي سنته تفصح لك عن أهمية الصحبة في دروب الحياة وفي طريق مسعانا إلى الله.
وثمة سبب آخر كان الدافع لي للكتابة عن هذا الأمر، وهو ظهور فئة تستكثر عليك ضعفك البشري، وحاجتك لصاحب يصحبك في طريقك إلى الله، فتجد أحدهم يستنكر عليك قائلاً: لو كنت مستغنياً بالله عمن سواه لما احتجت لبشر في مثل ضعفك!!
ولو تأمّل القائل لهذا القول في هجرة المصطفى، واستئذان أبي بكر منه بالهجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يستمهله، حتى أذن الله لنبيه الكريم بالهجرة يصحب أبا بكر معه ويكرمه برفقته في هجرته، مع أنّ النبي الكريم أغنى الخلق بالله وأنّ الله قد تكفل بحفظه من أن تطاله يد الغدر، وجبريل والملائكة من خلفه ومن حوله، فقد كان بِغِناه هذا أغنى الخلق عن صحبة بشر فيه من الضعف ما فيه.
فكانت هجرة المصطفى درساً عملياً يوجهنا من خلاله إلى أهمية أن تختار من يصحبك في طريق سعيك إلى الله، حتى إذا عثرت وأطبقت عليك ظلمات الأرض وضاقت بك نفسك فأسندَك الله، وشدّ أزرك بعضد أخ يقيلك من عثرتك ويدفع بك إذا تلكأت، فيكون فضل الله عليك عظيماً مضاعفاً؛ إذ لم يخذلك، ويسر لك من جنسك من يصحبك ويؤنسك في سفرك في هذه الدروب الموحشة، وبداية هي يد الله أيها العبد المسكين التي امتدت لك على شكل فلان من أحبابك أو فلان من أصحابك.
كانت هجرة المصطفى درساً عملياً يوجهنا من خلاله إلى أهمية أن تختار من يصحبك في طريق سعيك إلى الله، حتى إذا عثرت وأطبقت عليك ظلمات الأرض وضاقت بك نفسك فأسندَك الله، وشدّ أزرك بعضد أخ يقيلك من عثرتك ويدفع بك إذا تلكأت
ولو جلس أحدنا في حديقة غناء بعد خروجه من مرض أو مشكلة ما قد أظلمت بها نفسه وخارت منها قواه، لوجدت أثراً عظيماً ينساب إلى نفسك، ويسري عنها همومها منذ أن أبصرت عيناك جميل خلق الله المكنون في أضعف مخلوقاته، كاختلاف الورود والطيور وخرير المياه، وتذكر أن ذلك كله بداية من الله الذي خلق فأبدع، فأدخل إلى نفسك البهجة والسرور من خلال هذه الأسباب.
وتَفكّر من قبل أن تسارع صائحاً في وجه من شكر أمامك صنيع صاحب له أو قريب مد يده بمعونة، أو كان له فضل بما أجراه الله على يده فأقال عثرته، وقبل أن تنهره مغاضباً مستنكراً قوله وامتنانه وتقول له: كان الأجدر بك أن تلوذ بالله وتستغني بالله، تذكّر عند ذلك كليم الله موسى عليه السلام وهو يطلب من الله من يشدد به أزره، فيجعل له وزيراً من أهله، وأنّ أحدنا عندما يفزع إثر مرض أصابه، أو وجع ألمَّ به ليبحث عن أمهر الأطباء إنما كان يقيناً يعلم بأنه يأخذ بالأسباب وبيد الله الشفاء، تذكر وقتها نصيحة الفاروق: "إذا رأى أحدكم ودّاً من أخيه فليتمسك به، فقلما تصيب ذلك".
لولا فضل الله عليك لما تآلفت روحك، ولا اجتمعت بأرواح لا تربطك بهم صلة قرابة أو نسب إلا أخوة الدين والإيمان
فالمرء ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، وأن كل الأسباب التي اجتمعت لتشدك من عثرتك أيها العبد الضعيف وتدفع بك إذا ما تراجعت خطواتك للخلف، تذكّر أنها نتاج دعوة في سجدة ذلّ في محراب عبوديتك لله، فأمدّك الله بسبب من عنده على هيئة هذا الصديق أو ذاك الرفيق، وأنه لولا فضل الله عليك لما تآلفت روحك، ولا اجتمعت بأرواح لا تربطك بهم صلة قرابة أو نسب إلا أخوة الدين والإيمان، وأنه لولا فضل الله عليك لما استطعت أيها العبد أن تواصل الدرب بضعفك وشهواتك وشبهاتك، ولولا هذا الفضل من الله عليك لما استطعت أن تكون من القابضين على الجمر، لعلّ الله يجري على يديك أنهاراً تبعث الحياة في الراقدين، {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سورة سبأ: آية13].