يتقلب الإنسان بين أقدار الله تعاقبَ الليل والنهار، فهو إما في نعمة مغمور بها، يستقبلها ببهجة وسرور، وإما في نقمة يجهد في دفعها وصرفها، ونِعَم الله على الإنسان -الظاهرة منها والباطنة- هي أجل من أن يحصيها هذا العبد الضعيف، أو أن يوفي حق الله في الشكر على ما أنعم وما صرف ودفع من بلاء أو نقم!
غير أنّ هذا الإنسان النّسّاء العجول، ما دام فيه نفس يتردد وهو يستكثر من النعم فهو إلى نعم الله كما الظامئ الذي يشرب الماء المالح، كلما شرب ازداد عطشاً ، فلا يفتأ طلباً لهذه النعم متناسياً فضل الله عليه ابتداءً وختاماً، حتى إذا تأخرت فضائل الله عليه أو اشتهى أمراً وتأخر في الحصول عليه، أو التّمكُّن منه جزع وكأن خيراً لم يصبه قط! وارتفع صوته بالشكوى والتذمر، وضاقت نفسه، وشحب وجهه، وطرقته الطوارق، وكأن نعم الله ما ذاقها ولا تقلّب بها يوماً، وصار السخط حاله ومقاله، فتحقق فيه قول الله تعالى:{فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}[سورة الفجر: الآيات:16،15].
ولو تفكّر هذا الإنسان الآبق في هذا الكون وسننه والغاية من خلقه، لعلم أنّ للابتلاء نوراً يضيء له ظلمات دروبه وتشرق له نفسه، بل لو تفكر هذا العبد وتخلّى عن نظرته القاصرة التي تدفعه للجري وراء النعم العاجلة، لأدرك أنّ الابتلاء والمصائب التي يمتحن بها هذا الإنسان ما هي إلا قطرات غيث تتساقط على ربوع قلبه وصفحة روحه، إن استقبلها استقبالاً حسناً صابراً راضياً أينعت روحه وأشرقت نفسه وتبددت الحجب من حوله، وفهم المعنى المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: (عجبت من قضاء الله للمؤمن، إن أمر المؤمن كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له) (رواه أحمد في مسنده).
لو تفكر هذا العبد وتخلّى عن نظرته القاصرة التي تدفعه للجري وراء النعم العاجلة، لأدرك أنّ الابتلاء والمصائب التي يمتحن بها هذا الإنسان ما هي إلا قطرات غيث تتساقط على ربوع قلبه وصفحة روحه، إن استقبلها استقبالاً حسناً صابراً راضياً أينعت روحه وأشرقت نفسه وتبددت الحجب من حوله
ولو تفكّر هذا الإنسان وتريث قليلاً لأدرك أن وجوده في هذه الحياة إنما هو ابتداء ابتلاء وامتحان يخوضه منذ بلوغه سن التكليف والتمييز، وأن هذه الابتلاءات هي من ترقى به للعلا، أو أن تهبط به لأسفل درجات الانحطاط، ليكون كالأنعام بل أضلُّ سبيلاً.
وهذا الإنسان كثيراً ما ينسى أن كلّ شيء له ثمن، وأن خلف كل كبوة يعقبها قفزة تبلغه درجة ما كان يبلغها لولا كبوته تلك، والعدّاء حتى ينطلق في سباقه كان لا بدّ من تأخير قدمه للخلف، حتى يتسنى له الانطلاق بأقصى سرعة، وأن لا شيء نحصل عليه بالتمني دون بذل أدنى جهد ومشقّة، فحتى شربة الماء عليك أن تبذل من الجهد لتبلعها وتسكبها في جوفك، والسماء إن كانت تمطر غيثاً لكنها لم يسبق وأن سمع أحد أنها أمطرت لفلان مجداً أو جاهاً أو سلطاناً أو حتى فلاحاً، ولو كان إدراك الأمنيات وتحقيق الأحلام والأهداف بالتمني لما وجدت كائناً على هذه الأرض يسعى متحركاً في مناكبها .
ومن أراد ذهباً خالصاً كان لا بدّ من محنه في النار، حتى يخلص مما علق به من شوائب، وهكذا الإنسان، لن يتخرج من هذه الحياة إلا بعد الخوض في غمار امتحاناتها وابتلاءاتها، وبناء على أدائه وتقديمه يحصل على النتيجة في تلك الحياة الأخرى؛ إذ يقول جل شأنه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}[سورة البقرة: آية214]، ولو لم يكن للإيمان والاعتقاد ضريبة تدفع من أعصابنا وأعمارنا ودمائنا، لأصبح كل أهل الأرض مؤمنين ؛ إذ يقول تعالى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [سورة العنكبوت، آية:2]، فكان لا بدّ من فتنة ومحنة يُمتحن الإنسان ويُفتتن بها؛ لينال ما يستحق من جزاء.
ومن طبيعة الإنسان أنه يجزع لضر مسّه، أو لفوات خير عنه، فتراه يستقبل ابتلاء ربه وقد اسودّ وجهه، وانقبضت نفسه، وعبست أساريره، ولو أدرك أية منحة تكمن في محنته هذه لما رفع رأسه من سجود شكره لله حتى يلقاه، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرضت في الدنيا بالمقاريض) (رواه الترمذي).
لكنها الحياة الدنيا بمتاعها الغرور، كم صرعت من هامات على فتاتها، وذلت جبابرة على حطامها! وأنّ تلك القلوب التي امتحنت فصبرت ورضيت فازت وفلحت، وأن التمحيص لا بدّ منه في هذه الحياة؛ ليتمايز الناس وتتمايز القلوب، فتختلف الوجوه، وتتسابق الدرجات، وتعلو الهامات، وإن الذي يستقبل عطايا الله في النعم بالشكر، يستقبل الابتلاءات بالصبر والرضا؛ لأنه يعلم حقيقة أن النصر في أي سباق أو الفوز والخلاص من أي امتحان، إنما بدايته صبر ساعة، وبعدها تغمره لطائف الله، فهو يتقلب من خير لخير في كل أموره، وقد منحه الله بصيرة من خلالها تيقّن أن وراء كل محنة لا بدّ من منحة، كأشد أوقات الظلمة حلكة يسفر عن فجر ساطع لا زيف فيه، يضيء ما بين المشرق والمغرب .
التمحيص لا بدّ منه في هذه الحياة؛ ليتمايز الناس وتتمايز القلوب، فتختلف الوجوه، وتتسابق الدرجات، وتعلو الهامات
فليلزم كلّ منا نفسه المقام الذي وضعه به خالقه ومليكه ومولاه، فإنه استخدمك في النعمة؛ ليسمع قلبك يخفق شكراً وحمداً وثناء، وهو جل شأنه من يملك أن يمتحنك بالبلاء والفتن؛ لتجود بدمع ضعفك وذلك بين يدي سيدك مقراً بفقرك إليه، وغناه عنك، وأنك العبد الذي لا سيد ولا رب لك سواه، وكم يا مسكين من عبيد غيرك للعزيز الجبار! والذين ما حالت مصائبهم ولا منعتهم محنهم من الانطراح على عتباته رضاً وحباً وفقراً وتذللاً وتقرباً، وأنّ فقهك لسنن الابتلاء والمحن هي التي ترتقي بوعيك عن طيش الطفولة التي تقدم الجمرة على التمرة، لا لشيء وإنما لتوهّجها، ففقهك هذا ووعيك يجعلك تؤثر الآجل على العاجل، وأن السمّ قد يدسّ في إناء جميل المظهر، فيلهيك مظهره عن حقيقة جوهره، فتشرب السمّ بيدك مختاراً مريداً!
تذكّر أيها الإنسان إن رضيت فلك الرضا والسخط لمن سخط، وتذكّر قدوتك ونبيك يخرج من أحب البلاد إليه؛ امتثالاً لأمر الله، ويعود من الطائف وقد ردّوه وما عاملوه بأخلاق الكرام، فضرب لنا أروع الأمثلة في لجوء العبد لربه من قلب المحنة لتنقلب منحة تأتيه من عمق المحنة، وأنه لا يبتَلي الله من ابتلى إلا ليُكَفِّر عنه، أو يرفع في قدره ودرجته، أو يستخلصه لنفسه ، فتصبح سكنات المبتلى وحركاته وأنفاسه وخفقاته تدور في فلك الله تسبح بحمده، فينال شرف العبودية لله في محراب الحياة على اختلاف منحها ومحنها.