حينما نتحدث عن الحب بين أفراد الأمة الواحدة؛ فإننا لا نصدر في حديثنا عن عواطف جياشة، ومشاعر فياضة، وأحاسيس راقية؛ بقدر ما تدفعنا الفريضة الشرعية الغائبة عن واقع المسلمين اليوم.
والحب مقصد شرعي، وإرادة إلهية؛ فالله سبحانه أخبر بأنه ألّف بين قلوب الأوس والخزرج بعد أن كانت حالة العداء هي السائدة بينهم.. اقرأ ذلك في قوله تعالى: {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم، ولكنّ الله ألّف بينهم} [الأنفال:63]، فهذه الألفة التي غمرت قلوبهم بالمحبة والمودة، وظهرت على جوارحهم بالموالاة والإيثار؛ لستَ أنت صانعها يا محمد، ولو بذلت جهدك كله في سبيل ذلك لما وصلت إلى مرادك.. ولكن الذي يملك قلوب العباد ويقلبها كيف يشاء؛ هو سبحانه الذي جعل منهم إخوة متحابين، متحدين على نصرتك، متفقين على الذب عن رسالتك ودعوتك.
فلعمري؛ من هذا الذي يجعل من قلمه ولسانه سيفاً يهتك به أستار الأخوّة، ويجرح مشاعر حرّم الشارع خدشها، ويريق دماءً معصومة، ويقطع الحبل الذي أمر الله تعالى بوصله؟!
من هذا الذي يجعل من قلمه ولسانه سيفاً يهتك به أستار الأخوّة، ويجرح مشاعر حرّم الشارع خدشها، ويريق دماءً معصومة، ويقطع الحبل الذي أمر الله تعالى بوصله؟!
من هذا الذي ينفق ماله ووقته ليفرّق بين قلوب الأحبة، ويجهد نفسه في التحريش بينهم، وكأنه يحارب الله تعالى الذي أراد هذه الألفة فقال لها كوني فكانت؟ كيف يجرؤ هذا العبد الحقير أن يقول لها "لا تكوني"، والله تعالى يريد لها أن تكون؟!
ويقرر القرآن الكريم أن المؤمنين إخوة، ولا أخوة بلا حب، ولا حب مع تنازع ، ولذا فقد أمر بالآية نفسها بالإصلاح إذا طرأ خدش في جدار الحب المتين، فقال سبحانه: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات:10].. فكيف يكون من العبد إقدامٌ على إثارة الأحقاد بين المؤمنين على اختلاف توجهاتهم، ونبزهم بالبدعة والضلالة لمجرد الاختلاف معهم فيما يسوغ فيه الاختلاف؟ وأين بقية الدعاة من واجب نثر بذور الحب في عقول وقلوب الإسلاميين، والإصلاح بينهم إذا كان ثمة نزاعٌ شق صفوفهم، ورفع من شأن الخصام بينهم؟!
أين بقية الدعاة من واجب نثر بذور الحب في عقول وقلوب الإسلاميين، والإصلاح بينهم إذا كان ثمة نزاعٌ شق صفوفهم، ورفع من شأن الخصام بينهم
كيف لا نعلي من شأن الحب، والله تعالى أمرنا بالاعتصام جميعاً ونبذِ التفرق؛ فقال سبحانه: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} [آل عمران:103].. فقل لي بربك؛ أيكون اعتصامٌ بين المؤمنين بلا حب؟
ألم ينهنا الله سبحانه عن التنازع المفضي إلى الفشل في قوله تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال:46] فقل لي بربك مرة أخرى؛ كيف يمكن أن يكون المؤمنون بعيدين عن التنازع فيما بينهم؟ أليس بالحب.. والحب وحده.
وإننا لو رجعنا البصر إلى الأحاديث الشريفة الدالة على مكانة الحب، وعظم شأنه عند الله تعالى؛ لطال بنا المقام في سردها، ولأصابتنا الحيرة أيّها نقدم على الآخر.
ولو أردت أن أكتفي بحديث واحد؛ لاكتفيت بما اتفق عليه الشيخان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: "لا يؤمن أحدُكم؛ حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه".
وتكفي جملة "لا يؤمن" لتكون زاجرة للعبد عن الحسد والغل والحقد والضغينة والتحريش والتحريض، ثم يأتي الاستثناء الذي يتضمن إخباراً على سبيل الأمر والإلزام، بأن يحب المرء لأخيه ما يحبه لنفسه.
والأمر بحب الخير للآخرين؛ هو في الحقيقة أمرٌ بحبّهم، وأمرٌ بحب محبة الآخرين لهم .. أرأيت أحداً لا يحبّ أن يحبه الناس؟ فإذا كان يحب ذلك لنفسه؛ فإن من الواجب أن يحبّه لأخيه، وأخوه يحبه له، ويسعى كلاهما إلى تحصيل هذه المحبة لهما وللآخرين، والآخرون يسعون... وهكذا حتى يسود الحب المجتمع المسلم، وتصبح الأمة على قلب رجل واحد، ويصير المؤمنون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.