الحركة الإسلامية كما تعارفنا عليها -اصطلاحاً- تشير إلى أحد معنيين إذا ذُكرت، فإما أن تشير إلى تجربة الإسلاميين كلهم، بكل طوائفهم الموجودة (المنظمة وغير المنظمة)، السياسية والجهادية والدعوية والعلمية.
وإما أن تشير -إشارة أكثر خصوصية- إلى الجماعة السياسية الحركية الإسلامية، التي انتهجت العمل الجماعي المنظم، والنضال السياسي القانوني الدستوري، والحراك الشعبي الجماهيري، والتي لها في ذلك بعدٌ عالميٌ ظاهر، يتمثل في وجود فروع لها في كل دولة عربية وإسلامية، بل وفي البلاد غير العربية والإسلامية.
وهي بهذا المعنى الأكثر خصوصية إنما تشير بوضوح إلى جماعة الإخوان المسلمين وفروعها، والجماعات الأكثر شبهاً وتأثراً بها، والأكثر قرباً إليها.
لكن مصطلح الحركة الإسلامية كان يشير في أول ظهوره واستخدامه إلى تلك الحركة المنظمة السياسية، ثم أصبح يستخدم بعد ذلك بإشارته العامة كما ذكرنا، وهذا يشبه إلى حد كبير ما يحدث في علوم اللغة بما يسمى بـ(تطور الدلالة)، الذي يؤدي إلى (تعميم الدلالة)، بحيث تعطي معنى أكثر عمومية بعد معناها الخاص، أو إلى (تخصيص الدلالة) بحيث تعطي معنى أكثر خصوصية بعد معناها العام.
وفي هذا المقال وفي غيره، أميل إلى استخدام هذا المصطلح بمعناه الخاص (الحركة الإسلامية السياسية المنظمة)، التي تعني قطعاً (الإخوان المسلمين)، وأميل في التعبير عن المعنى العام بمصطلح (التيار الإسلامي) أو (الإسلاميين)، وفي هذا تفريق واضح بين المصطلحات ومعانيها.
الحركة الإسلامية بمعناها الخاص هذا، بدأت بذرتها في مصر على يد المؤسس الإمام "حسن البنا"، ثم اغتيل الإمام بعد ذلك، واضطُهدت الحركة وضُيّق عليها، فخرج كثير من أقطابها وأعضائها إلى البلاد المختلفة، ونشروا هناك الفكرة التي ما لبثت أن تحّولت إلى جماعات وتنظيمات مماثلة للتي في مصر، وشكلت ما يشبه الفروع للحركة الأم، وقد كان هذا البعد العالمي بعداً رئيساً في فكر المؤسس الإمام "حسن البنا"، فبدأ في حياته إنشاء فروع للجماعة في فلسطين والأردن وغيرها، لكن الأعداء لم يمهلوه ليستكمل مشروعه الكبير.
كان البعد العالمي بعداً رئيساً في فكر الإمام "حسن البنا"، فبدأ في حياته إنشاء فروع للجماعة في فلسطين والأردن وغيرها، لكن الأعداء لم يمهلوه ليستكمل مشروعه الكبير
انقلب "عبد الناصر" على جماعة الإخوان بعدما كان فرداً منها، وبعدما تشاركا معاً في الانقلاب على الملكية، وشكلت جماعة الإخوان سنداً شعبياً لحركة الضباط بقيادة "عبد الناصر" حينها.
حاك عبد الناصر المؤامرات وسام الإخوان سوء العذاب، وصنع في اضطهادهم وسجنهم وتعذيبهم وقتلهم ملحمة أسطورية سجّلها التاريخ، وتظلّ تُحكى من سجلاته السوداء إلى يوم القيامة.
بعد موت عبد الناصر ومجيء السادات، عمد السادات إلى سياسة محاولة الاحتواء، فأخرج الإخوان من السجون، وترك لهم المجال للعمل الدعوي في أوساط الشباب والجامعات، ولم يترك لهم المجال كثيراً للعمل السياسي الحزبي.
بدأ الإخوان في عهد السادات في لملمة أوراقهم، ورأب تصدعات تنظيمهم، وبدأوا في الانتشار أكثر في البلاد المختلفة، وبدأ حينها التفكير بقوة في إنشاء ما يعرف بـ(بالتنظيم الدولي) الذي يجمع فروع الجماعة المختلفة التي قامت على فكر وأدبيات جماعة الإخوان المسلمين في البلاد المختلفة؛ ليكون التنظيم والتعاون بين هذه الفروع في أعلى صوره.
وُجد التنظيم الدولي في صورة من الصور وبشكل من الأشكال، وعلى يد رجال كان أبرزهم: المرشد السابق "مصطفى مشهور" والمرشد السابق الشهيد "محمد المهدي عاكف".
وانتشرت فروع الجماعة المنظمة والمرتبطة بالجماعة الأم، وتنظيمها العالمي في كل البلدان والقارات، حتى وصلت لأوروبا وأمريكا، بل كان تنظيم الإخوان في أوروبا تنظيماً قوياً يمثل ركناً أساسياً من أركان ذلك التنظيم العالمي الكبير.
انتشرت فروع الجماعة المنظمة والمرتبطة بالجماعة الأم، وتنظيمها العالمي في كل البلدان والقارات، حتى وصلت لأوروبا وأمريكا، بل كان تنظيم الإخوان في أوروبا تنظيماً قوياً يمثل ركناً أساسياً من أركان ذلك التنظيم العالمي الكبير
ومرت السنون، وجاء الربيع العربي بثوراته المتتالية، التي سقطت فيها العروش وسقط فيها الرؤساء والحكام، حينها ظهر الإخوان في أقوى صورهم، وظنّ الكثيرون أن الزمان زمان الإخوان، وأن حلمهم بإقامة دولتهم الإسلامية الموحدة (دولة الخلافة) بات قريب التحقيق.
ثم حدثت المؤامرات الداخلية والخارجية لإفشال هذا الربيع العربي، فانقلب الربيع خريفاً، وانقلب أكبر انتصار للإخوان في تاريخهم إلى أكبر هزيمة لهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت بحرب داخلية وإقليمية وعالمية لم يسبق لها مثيل.
ضاع الربيع العربي وضاعت ثوراته، وبدأت مرحلة المحنة الكبرى في تاريخ الإخوان، فأعملت يد الأنظمة فيهم سجناً وقتلاً وتهجيراً، هنا سارعت بعض الفروع المختلفة للجماعة في بلادها المختلفة بإعلان عدم ارتباطها بالإخوان، إما تقيّة وإما على الحقيقة.
الظاهر أن بعض هذه الفروع يُعلن فكّ ارتباطه بالجماعة في العلن تقيّة على غير الحقيقة، في حين أن البعض الآخر قد وصل لقناعة استراتيجية بعدم جدوى هذا الارتباط التنظيمي، وذلك كما حدث في الجزائر (حركة حمس) وفي تونس (حركة النهضة).
المتتبع لما أصبح يكتبه ويصرح به قادة الحركة الإسلامية في هذه البلاد سيرى أن الأمر عندهم بات قناعات استراتيجية، وليس من قبيل التقيّة السياسية للتعمية على الأنظمة الداخلية والخارجية.
الدكتور "عبد الرزاق المقري" -زعيم حركة (حمس) الجزائرية- في شهادته في برنامج (مراجعات)، مع الدكتور "عزام التميمي" أشار إلى ذلك، بل أكّد عليه فكرياً واستراتيجياً، وكذلك الشيخ "راشد الغنوشي" -زعيم حركة (النهضة) التونسية- أصبح يشير إلى ذلك، ويؤكِّد عليه في كافة البرامج التلفزيونية، وكذلك في كتاباته ومقالاته، بل يُقعّد لما هو أبعد من ذلك، في تغير استراتيجي وفكري وأيديولوجي كبير وخطير، إن لم يكن في الأمر تقيّة كبرى، ودهاء سياسي وفكري تاريخي.
والأسئلة المطروحة بقوة في نهاية هذا السرد هي:
-هل كانت فكرة التنظيم الدولي من البداية صحيحة ومصيبة وذات فائدة؟
-وما هو عمل التنظيم الدولي، وما هي مهامه؟
-وهل يشكل وجوده عبئاً على فروع الحركة من قبل دولها ومن قبل النظام العالمي؟
-وهل ما يزال التنظيم العالمي موجوداً؟
-وما هو الحل النهائي الأمثل بالنسبة له؟
فأما عن فكرة وجود التنظيم الدولي، وهل كانت مصيبة أم لا، فإن المقطوع به أن فكرة الإمام "البنا" ومشروعه منذ أن نادى بهما لأول مرة وحتى استشهاده، هي فكرة تنادي بالعالمية، ومشروع يؤسس لها، وكل أدبيات الإمام "البنا" وكل منتجه الفكري يؤكد ذلك، وبالتالي فالعالمية جزء أصيل من مشروع الإمام "البنا"، وسبب كبير لوجود جماعة الإخوان المسلمين ، ولقد سعى الإمام "البنا" في حياته -كما قلنا- إلى إنشاء فروع في البلدان المختلفة، ونجع في بعض هذا.
وأما عن عمل التنظيم الدولي وعن مهامه، فهي التعاون الفكري والتربوي بين الفروع المختلفة، والسعي لتبني خطوط عامة في المناهج الفكرية والتربوية، وهذا من شأنه أن يخرّج أجيالاً في كافة البلدان تشرب من معين واحد، وتسقي من هذا المعين الأمة كلها، وهذا أدعى لوحدة الأمة الفكرية والتربوية، وهو ما يؤسس على المدى البعيد لوحدة الأمة كلها على خير أساس.
وكذلك محاولة التنسيق في المسائل السياسية الكبرى، والقضايا العالمية العامة، مع التأكيد على حرية كل فرع باتخاذ القرار السياسي الخاص به، حتى نصل إلى البغية في موقف عربي وإسلامي واحد من قضايا العالم ومسائله العامة.
وأما عن كون وجوده عبئاً على فروع الحركة من أنظمة بلدانها، وكذلك من النظام العالمي المهيمن، فهذا صحيح إلى حد ما، لكن الواضح أن الحرب على هذه الفروع كلها، وكذلك على حركتها الأم، قائم من الأنظمة القطرية والإقليمية والعالمية بصرف النظر عن ذلك.
وفكّ ارتباط هذه الفروع بالحركة الأم لن يبعد عنها هذا العداء، ولن يقيها من المؤامرات على وجودها وانتشارها، فالأنظمة القطرية والإقليمية والعالمية قد صنفت هذه الفروع، وعلمت يقيناً منطلقاتها ومشاربها وأصولها وفروعها، ولن ينهي ذلك أية مواقف جديدة بقطع الصلة، سواء كانت هذه المواقف مدّعاة أو حقيقية.
فكّ ارتباط فروع الجماعة بالحركة الأم لن يبعد عنها هذا العداء، ولن يقيها من المؤامرات لأن الأنظمة القطرية والإقليمية والعالمية قد صنفت هذه الفروع، وعلمت يقيناً منطلقاتها ومشاربها وأصولها وفروعها، ولن ينهي ذلك أية مواقف جديدة بقطع الصلة
وأما عن مسألة استمرار وجود التنظيم العالمي في ظل هذه الظروف أو انتهائه، فالظاهر أن التنظيم العالمي الآن في أضعف صوره بعد الربيع العربي، وفك الارتباط من بعض الفروع به، وهذه الحرب الضروس على الحركة الأم وعلى فروعها ، والظاهر أنه إن لم يكن التنظيم العالمي قد انتهى وحُلّ تماماً، فهو مجمّد إلى حد يقترب من الحل، ولا يبدو أن ثمة فرصة لعودة نشاطه أو إنهاء تجميده قريباً، في ظل كل هذا الاضطراب العالمي.
وأما عن الحل النهائي بالنسبة لذلك التنظيم، فهو -من وجهة نظري- عودته للعمل والنشاط، مع النظر من جديد في شكله وآلياته وبنيته التنظيمية، وفي علاقته المحددة بالفروع، وفي مهامه ومسؤولياته، على أن تبقى لكل فرع حريته الكاملة في اتخاذ القرارات الخاصة ببلده وظروفه.
ويبقى في ذلك السؤال الذي ما زلت أطرحه: "إذا عجزت الحركة الإسلامية عن تجميع فروعها والوحدة الكاملة فيما بينها، فكيف ستنجح في توحيد الأمة الإسلامية كلها مع اختلاف الجغرافيا والأعراق والأعراف؟ ".
فإذا ما عجزت الحركة الإسلامية عن هذا فستكون عن ذلك أعجز، ولننظر حينها في الأطروحات التي تتحدث عن فكرة الدولة الإسلامية القُطرية، وعن استحالة الدولة الإسلامية الموحدة (دولة الخلافة)، وليعمل كل فرع للحركة في بلده في إقامة دولته على أرضه وتحقيق مشروعه الإسلامي في وطنه بعيداً عن البلدان الأخرى والفروع الأخرى، ولتخرج لنا حينها عشرات الدول الإسلامية!