تحدثنا سابقاً عن الانهزام وأسبابه ومظاهر الشخصية المنهزمة نفسياً، ووضّحنا أن أكبر مقوِّم لوجود الانهزام لدى البشر -وخصوصاً الشباب- هو الوضع السياسي، خصوصاً في ثورات الربيع العربي.
واليوم نوضّح سبل العلاج من هذه الآفة الخبيثة التي تسرّبت لنفوس الكثير من الشباب، واليوم نتحدث عن علاج هذه الروح الانهزامية وحتمية التخلص منها، إن أراد الشباب حياةً سويةً بلا مشكلات أو عُقَد تعطل حياتهم وتعجل بكهولتهم وشيبتهم!
وقبل أن نتحدث عن العلاج، لابدّ من المرور على بعض السمات الشخصية للشخص المنهزم نفسياً أو صاحب الروح الانهزامية.
-إن الانهزامية تدفع صاحبها للسلبية والضعف، فالضعف يورِّث التشاؤم واللجوء للانطواء، والسعي لتكوين عالم افتراضي، سواء داخل عقله أو في عالم الإنترنت، وعليه فإن الكثير من أصحاب الشخصية الضعيفة أو المنهزمة يسعون لمنصّات التواصل؛ لتكوين شخصٍ مغايرٍ عنهم، وهذا ما يؤكِّده علم النفس.
الضعف يورِّث التشاؤم واللجوء للانطواء، والسعي لتكوين عالم افتراضي، سواء داخل عقله أو في عالم الإنترنت
-السمة الثانية للشخصية المنهزمة "الوسوسة وسوء الظن": وتلك آفة قد تدفعه للانتحار، وكل يوم الأحداث والأخبار تؤكد أن الشخص صاحب الظن السيئ محل سخط وكراهية، ليس في شخصه، بل صفاته التي يرفضها المجتمع لما فيها من أثرٍ خبيث على تواصله مع الأهل والعامة.
-أما السمة الثالثة أنه يخشى المواجهة: فهو لا يستطيع أن يُعْلي صوته أمام الناس، فضلاً عن المطالبة بحقه، حتى وإن كان صاحب حق أو مظلوماً، فنظرته للمجتمع نظرة انعزال، فلا يرغب فى الحديث أو حتى الوجود، فهو مسلوب الإرادة، منهزم الروح والعقل.
والآن يبقى السؤال الأهم في هذه المقالة: كيف يتخلص الشابُّ من هذا الانهزام؟
أولاً- الاعتراف بالحالة النفسية:
إن الاعتراف بوجود الداء هو نصف الدواء، وما هذه الآفة إلا مرض له أسبابه ومقوماته وأعراضه، وكذلك لها دواء ونتائج إيجابية إذا تمّ بالشكل الذي يلبّي طموحات الشاب، ويوافي طموحاته، والدافع للاعتراف هو السعي للتخلص منها، ومن ثمارها الخبيثة التي تعطل وتؤخر صاحبها، لذلك فلا مجال للمكابرة والعناد والتظاهر بأن الأمر تمام، وأن المعنويات في السماء بالرغم من أن الواقع كاشف وفاضح.
ثانياً- حب نفسك:
إن كل إنسان أدرى بنفسه من غيره، فيعلم تميزه وفشله ونقاط القوة والضعف، ومقومات النجاح والفشل، وهل هو عاطفي رومانسي، أم متجلد صلب، لذلك فاكتشاف الشخصية والسعي لبناء العقل والقلب معاً عبر القراءة والاطلاع، والتوبة وصدق العودة لله من مقومات إنجاز الدواء والتخلُّص من هذه الآفة التي ستذهب أدراج الرياح، ودون شعور منك طالما بدأت مشوارك الصحيح.
وإن النفس حقيق أن يحبها المرء، فكل إنسان شغوف بنفسه، طالما لا غرور ولا كبر، فضلاً عن الحب الذي يدفع للتغيير والتطوير، وما آفة الانهزام إلا داء له دواء، شريطة الهمة العالية في نيل الدواء، والأخذ بكافة الأسباب الدنيوية والعلمية.
اكتشاف الشخصية والسعي لبناء العقل والقلب معاً عبر القراءة والاطلاع، والتوبة وصدق العودة لله من مقومات إنجاز الدواء والتخلُّص من هذه الآفة
ثالثاً- انتقِ أصحابك:
إن معرفة الرجال كنز كما قيل قديماً، كذلك فمجالسة الصالحين ومزاحمتهم من عوامل النجاة في الدنيا والآخرة، والصلاح المقصود هو الصلاح الشامل فكرياً وتربوياً ودعوياً، فالطريق واضح ومعالمه جليَّة، ويقيناً العاقبة للمتقين الصابرين المحتسبين العاملين لدين الله ودعوته، بفهم وحسن تجرُّد، فاتبع سيرهم، فالتاريخ مليءٌ بهم، فاقرأ عنهم، وتبحَّر من علومهم، وتأسَّ بمن رحل منهم، ولنا في النبي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم القدوة والأثر الطيب، فالكثير من الأحاديث تدفع في هذا الاتجاه لخطورة الرفيق والصاحب، والقرآن ذكر هذا الأمر حيث قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)}[الزخرف].
رابعاً- حاسب نفسك:
إن الإنسان مطالب -دوماً- في حياته بوقفات يحاسب فيها نفسه، فكما قال الفاروق عمر رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم"، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها.
لذلك فالمرء عليه تبعة ثقيلة في الشفاء من الانهزام، تكمن في محاسبته لنفسه، ورحم الله رجلاً أتى بنفسه فحاسبها، فوجدها مقصرّة فوبَّخها، ثم ألزمها كتاب الله، فصار لها قائداً كما قال مالك بن دينار، ثم إن محاسبة النفس تدفع الشخص لمعالجة الأخطاء، وهو ما يؤثر عليها إيجاباً، فينشط وينتشر ويحذر من الوقوع في الزلل مجدداً، ثمّ إن الشخص الحريص على محاسبة نفسه هو أقرب الناس للرجوع سريعاً، فلا ينساق وراء شهواته التي تدمِّره بل يسعى في تكوين قلبه، وسمو روحه عبر محرابه مع ربه، وكلّما أصابه ضُرّ لجأ إليه.
إن محاسبة النفس تدفع الشخص لمعالجة الأخطاء، وهو ما يؤثر عليها إيجاباً، فينشط وينتشر ويحذر من الوقوع في الزلل مجدداً
خامساً- اترك صومعتك الفكرية:
والذي أقصده في هذه النقطة تحديداً هو تعدد المصادر في التَّلقي، فلا يمكن لمن يسعى في انتشال نفسه من الانهزام والانكسار أن يظل جالساً في صومعة واحدة، يتلقى منها نفس المواد ونفس المناهج بلا تحديث أو تجديد، وبالتالي سيصاب بحالة من الكبت الفكري والضيق، ويفضل العزوف وعدم القراءة؛ لأنه قد حفظ كل المناهج والمقررات الفكرية، لذلك فالهروب لمناهج وآراء وأطروحات فكرية وتربوية تزيد من الخبرات، وثقل الطاقات، وتوظف الملكات من عوامل النجاح والتميز، وإلا فما قيمة هذه الحياة، فإن المرء إن لم يضف على الدنيا زيادة فهو عليها زيادة، ويقيناً لن يخلد في الدنيا إلا من طوَّر وتطوّر، وغيّر وتغيّر، وجعل في الحياة أثراً من خلفه يذكره الناس، فالذكر للإنسان عمر ثانٍ.
ختاماً: أخي الشاب، الحياة مدرسة بها المتميز والمجتهد، والمنهزم والعليل، وكل إنسان أدرى بنفسه من غيره، يدرك عورات فهمه ونقاط تواضعه، وأماكن قوته وضعفه، والشاب الصادق في حب نفسه –أولاً- هو الساعي للتميز والتطور ثم الرغبة في صدق اللجوء لله، فذلك هو المسار الباقي والنافع في الدنيا والآخرة.