يسود في الساحة العربية فكر المناكفات سواء بين أنظمة الحكم أو بين الأنظمة وخصومها الداخليين الذين تتوفر لديهم فرصة الكلام في السياسات الرسمية. في كثير من البلاد العربية نجد الخصومات البينية تتسع وتكبر، ويلهي أطرافُها الشعوبَ عن قضاياها ويدمرون أواصرها الاجتماعية وقواعدها الأخلاقية.
ونجد وسائل الإعلام شريكا رئيسيا في تغذية هذه الخصومات والبحث عن مواضيع للمناكفات التي من شأنها أن تعلي مقام الطرف الذي تؤيده، وتحقر الطرف الذي لا تؤيده. هناك أنظمة حكم لا تنفك عن مخاصمة أنظمة أخرى رغم أنه لا يستطيع نظام أن يدعي قدسيته الذاتية وتدنّس الآخرين. وهناك مناكفات مستمرة على الساحات الفلسطينية واللبنانية والتونسية، من شأنها إضعاف الجميع وتحويل تركيزهم إلى رغبة الانتقام بدل رغبة البناء.
كلمة مناكفة تأتي من أصلها العربي "نكف" والتي من معانيها مسْحُ الدمع عن الخد؛ يقال: نكف الشخص دمعه أي مسحه بأصابعه أو أزاله، وكذلك تعني مسح العرق عن الجبين. أما عندما نقول أنكفه فإننا نعني نزّهه، ونعني خاصمه وحقره عندما نقول ناكفه. وهذه كلمة اعتاد أطفال بلاد الشام على استعمالها في قوانين ألعابهم؛ فعندما ينكف طفل طفلا آخر في مادة اللعب، تعني أنه أزاحه أو أزاله أو هزمه.
"المناكفات في الساحة العربية تسود على منطق العمل الجماعي والتعاون المتبادل والمشاركة، وهي تعني إزالة الآخر أو مسحه بحيث تخلو الساحة للطرف الذي نكف. وهذه هي إحدى علامات الخيبة والغباء السياسي في البلدان العربية؛ فما من أحد يستطيع أن يلغي الآخر أو يزيله لأن كل طرف يعبّر عن جماهير وعن قناعات معينة لدى هذه الجماهير"
القصد أن المناكفات في الساحة العربية تسود على منطق العمل الجماعي والتعاون المتبادل والمشاركة، وهي تعني إزالة الآخر أو مسحه بحيث تخلو الساحة للطرف الذي نكف. وهذه هي إحدى علامات الخيبة والغباء السياسي في البلدان العربية؛ فما من أحد يستطيع أن يلغي الآخر أو يزيله لأن كل طرف يعبّر عن جماهير وعن قناعات معينة لدى هذه الجماهير.
من الممكن أن يتم إسكات الطرف الآخر أو كبته، لكنه لا يستطيع إلغاءه. ولا يبدو أن لدى الحكام العرب من القدرة الفلسفية السياسية التي تقودهم إلى القناعة بأن الآخر لا يمكن أن يزول إلا إذا طمره التاريخ بسبب تغير الأحول.
هم ما زالوا يؤمنون بأن الطرف الآخر ضال ولا يفقه، ويجب اتخاذ الإجراءات القاسية بحقه لكي يذوي ويختفي، علما بأن الكبت والقهر ومصادرة الحريات تنعكس سلبا على الحكام أنفسهم، لأنها تبني المزيد من الإصرار على التغيير السياسي الذي سينبثق حتما في مستقبل الأيام.
تدخل المناكفات في موضوع المنافسات الإنجازية والمنافسات الإسقاطية؛ فالمنافسات الإنجازية هي التي يحاول كل طرف من المتنافسين أن يثبت فيها تميزه وحسن أدائه عبر تحقيق إنجازات. ويحاول جهده لتحقيق إنجازات لكي يقنع الآخرين بأن نهجه وسلوكه وطرق أدائه أفضل مما يفعل الآخرون، وهذا هو التنافس الذي يقود إلى التطور والتقدم في مختلف مجالات الحياة.
ينهمك أطراف المنافسات الإنجازية في الاكتشاف والاختراع والتحسين والتطوير، بينما تعني المنافسات الإسقاطية تتفيه أعمال الآخرين وعرقلتها ما أمكن، لكي يفشل الآخر ويُهزم أمام نفسه وأمام الناس. ما يقوم به الطرف الآخر في هذه المنافسات قبيح وسيئ، ويؤدي إلى تدهور الأوضاع، ويسهّل السرقة والاختلاس وكل أنواع الفساد.
ويعمل الطرف الآخر دائما على وضع العراقيل في وجه المنافس حتى لا يحقق إنجازا يحمده الناس ويثنون عليه. وشعار المنافسات الإسقاطية دائما هو أن إنجاز طرف يشكل هزيمة للطرف الآخر، والحرب على الإنجازات في هذه الصيغة التنافسية تبقى مستعرة.
في المنافسات الإسقاطية يجري دائما العمل على تصوير فشل الآخرين؛ فإذا كان أحد الأطراف غير قادر على تحقيق إنجاز فإن عليه أن يصر على إفشال الآخرين. وغالبا هذه هي القاعدة على الساحة العربية؛ فالفاشل في المنافسات الإسقاطية يصر على فشله، ويستمر فيه حتى لو دمر البلاد والعباد، وغير القادر على الإنجاز يصر على إفشال منافسه.
وعليه؛ فإن الساحات العربية تلهّت في منافسات إسقاطية أفشلت دولا، وهزمت جيوشا، ومكنت الأعداء من الهيمنة على الوطن العربي. أغلب الدول العربية فاشلة، والشعوب العربية ليست أحسن حالا. ومن شأن الخائب أن يكابر ويزوّر الحقائق لكي يبدو عظيما وصاحب إنجازات مميزة.
وأكبر دليل على ذلك أن العرب انتصروا إثر بهزيمة لحقت بهم. وفقط هزموا في المعارك التي انتصروا فيها لأن الخصوم الداخليين هم الذين انتصروا. هذه هي النفسية المريضة التي تتنكر للحقائق العلمية وتغلب عليها عقلية "الفهلوة" والكذب والتضليل.
"لنقارن بين الروح التنافسية التي تسود في الكيان الصهيوني وتلك التي تسود في البلدان العربية. لننظر كيف قفز الصهاينة قفزات واسعة وعالية وسريعة في مختلف ميادين الحياة، وكيف بقينا نحن نستجدي الرحمة من أهل الغرب الذين تآمروا علينا باستمرار. حقق الصهاينة الوعي بمستقبلهم، ونحن ما زلنا نؤمن أن لا مستقبل في الأفق"
أصحاب التنافس الإنجازي أناس أصحاء نفسيا ويملكون رؤى لتقدم مجتمعاتهم وشعوبهم، ولديهم الاستعداد للسهر المستمر لتحقيق إنجازات يعم خيرها على الجميع. إنهم أصحاب قوة أخلاقية رفيعة المستوى، وذوو انتماء والتزام وتماسك نفسي وقدرة علمية ومنطقية راقية.
أما أصحاب التنافس الإسقاطي فمرضى نفسيا ومصابون عقليا وقدراتهم الأخلاقية والمنطقية والعلمية محدودة جدا، وهم أسرى شهواتهم ورغباتهم في مسح الطرف الآخر وإزالته حتى ولو كان الثمنُ هلاكَ الأمة. إنهم عُمْي البصيرة وضيقوا الأفق والصدور، ولا يرون أبعد من رؤوس أنوفهم.
ولنقارن بين الروح التنافسية التي تسود في الكيان الصهيوني وتلك التي تسود في البلدان العربية. لننظر كيف قفز الصهاينة قفزات واسعة وعالية وسريعة في مختلف ميادين الحياة، وكيف بقينا نحن نستجدي الرحمة من أهل الغرب الذين تآمروا علينا باستمرار. حقق الصهاينة الوعي بمستقبلهم، ونحن ما زلنا نؤمن أن لا مستقبل في الأفق.
التنافس الإسقاطي أو فكر المناكفات يستهلك الأفراد ويفرغ طاقاتهم الإبداعية ويهلك قدراتهم العقلية والمنطقية؛ إذ ينشغل المنافس الإسقاطي في أعمال المؤامرات وصناعة المثالب والغدر، فتتطور لديه نفسية منحطة تمتهن الانحرافات وتبعده عن طرق الخير والبناء.
فبدل أن يوظف طاقاته في معالجة الهموم العامة، وتحقيق الإنجازات والتطلعات والأحلام، ينبري إلى غرزة التفتيت والتمزيق والاستسلام، ويتحول إلى عاهة ثقيلة على المجتمع وعلى الثقافة العامة المتنورة. وإذا سادت المناكفات في مجتمع معين فإن هذا المجتمع لا مفر سيفشل، وستلحق به الهزائم في مختلف مجالات الحياة.
هل من حل لهذه المأساة؟ بالتأكيد هناك حلول يمكن أن أصفها ويصفها غيري، لكن المسألة تتطلب جهود دولة. فهل الأنظمة السياسية لديها الاستعداد لتبنّي قدرات علمية تضع برامج للقضاء على ظاهرة المناكفات؟ إن فعلت فإنها تهدد بقاءها. ولذلك فإننا سنظل في حلقة مفرغة إلى أن يمنّ الله على الأمة العربية بقائد يعي ما يفعل ويعرف كيف ينفذ.