مفاهيم مغلوطة
تضاربت المفاهيم لدى الناس بين الحلال والحرام والمباح والمكروه والمستحب، وتبدّلت الأخلاقيات والممارسات اليومية لتتبع العادة وتستقي مشروعيتها من العادات والتقاليد تارة، ومن التقليد غير المتزن من الغرب والشرق تارة أخرى؛ لتصير حياتنا خليطاً غريباً من شرائع وعادات شعوب أخرى لا تليق بنا، ولا تجوز في حقنا كمسلمين.
فذهبت السعادة والسكينة والهدوء والاستقرار إلى حيث لا رجعة، وتعرضت بيوتنا لهزات عنيفة ترتفع معها نسب الطلاق بشكل مخيف وغير مسبوق، تبدّلت المفاهيم لدى أبنائنا من الأولاد والبنات -على حد سواء- خاصة الفتيات المقبلات على الزواج، واللاتي لم يتعلمن معناه كقيمة إسلامية عالية، والهدف منه والنظر إليه كقيمة حضارية توجّه حياة الشعوب والأمم بحسب المفاهيم التي يتقيّد بها المتزوجون –خاصة- الحدثاء منهم، فمثلهم -في ذلك- كمثل البناء الذي يشيد عمارة سكنية مثلاً، فأحد هؤلاء إذا سألته عما يفعل قد يقول لك، إنما أقوم بعملية رصّ طوبة على أخرى؛ لتصير بناءً يسكنه غيري، أنا بنّاء وما يهمني أن أتقاضى أجري الذي لا يكفيني في نهاية اليوم.
وأما القليل جداً منهم من يقول لك، إنما أشيد بناءً ضخماً، أضع فيه كل لمساتي الفنية، أسعد به حين يكبر يوماً بعد يوم أمام عيني، أشيد به حضارة، أحرصُ على إبقائها أكبر فترة ممكنة ليقول من يسكنه: سلم من وضع تلك اللمسات على البناء، أنا فنان يشكِّل سعادة إنسان، أترك خلفي عملاً فنياً رائعاً، حتى لو لم يعرفوا من أنا، يكفيني ما قدمته للناس ! وهكذا الفرق بين مفهوم ومفهوم، وبين زوجة وزوجة، وبين رجل ورجل.
إن المجتمعات تتشكل من مجموعات من الأسر والأفراد الذين يقضون جلّ حياتهم داخل تلك الأسر، وما نحصده في الغد الذي هو مستقبل أي مجتمع إنما تغرسه الأسر من أخلاقيات ومبادئ ، ويتوقف عطاء الإنسان لمجتمعه على ذلك الكم من السعادة والرضا والتربية الذي تلقاه في موطنه الصغير الذي هو أسرته، وإذا كانت الأسرة نفسها تفتقر لتلك المعاني، فبالأحرى ستكون عاجزة عن إعطائها للجيل الجديد، وبذلك نورِّث الأمة ضعفاً على ضعف، وبذلك أيضاً تأذن بالفشل الذريع والضعف المزري، ثم تصير مجتمعات عربية كالتي نعيش فيها اليوم بكل ما فيها من انحرافات تشكل الرقم "صفر" على مستقبل تلك البلاد.
يتوقف عطاء الإنسان لمجتمعه على ذلك الكم من السعادة والرضا والتربية الذي تلقاه في موطنه الصغير الذي هو أسرته، وإذا كانت الأسرة نفسها تفتقر لتلك المعاني، فبالأحرى ستكون عاجزة عن إعطائها للجيل الجديد
وما يحيرني حقاً، أن الأم رغم خبرتها في الحياة؛ لأنها مرت بالتجربة مسبقاً على الأقل، هي من تورث ابنتها نفس المفهوم، وقد سمعت إحداهن تنصح ابنتها المخطوبة حديثاً قائلة: "عيشي حياتك الآن، فبعد الزواج أمر آخر، والرجل بعد الزواج ليس هو قبله، والحياة بعد الزواج لها شأن آخر، اخرجي، وأنفقي، وافرحي، وتجمّلي، وتبادلي معه الهدايا، فقيمتك عنده بقدر ما ينفق، سيطري عليه من الآن، افرضي كلمتك عليه، عوِّديه على طباعك وليس طباعه، أنسيه أهله، لا تجعلي لهم سلطاناً عليه، حين يغضبك لا تتصالحي سريعاً حتى يعبّر عن صلحه بهدية جديدة، كوني محور حياته حتى لا يجد وقتاً ينشغل بغيرك".
ثم نصائح أخرى تؤدي إلى المهالك، وكأنها توشك على حرب ضارية بينها وبين الزوج المرتقب، وتحرص على أن تكون ابنتها المنتصرة، أو كأنها صفقة تودُّ لو تخرج ابنتها منها بأكبر كسب ممكن، وترضخ البنت لنصائح أمها، فتنهال عليه بجملة أخلاق رديئة توشك بزواج فاشل وحياة زوجية تعيسة!
ثم مظاهر الخطبة اليوم، تلك التي تعطي الخطيب معظم حقوق الزوج من خلوة، وخروج منفردين، ولمسات وهمسات، وضحكات تدخل في دائرة الحرام البين تحت ستار الخطبة، والتي هي مجرد وعد بالزواج لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً، وهي أول نذير بالفشل الذريع بعد الزواج؛ وذلك لأن الزوجة والزوج كلاهما يقارنان بين الزوجة على طبيعتها في بيتها وبين تلك الفترة التي كان يرى منها أحسن ما فيها، ولا يراها إلا وهي بكامل زينتها، ولا يراها غاضبة، أو متعبة، أو أنهكها العمل بالبيت أو خدمة الأولاد، وحين تبدأ المقارنة بين الفترتين يكونان خاسرين بالتأكيد، في حين أنه من العبادة أن يتجمّل أحدهما للآخر في بيتهما معاً تحت مظلة الشريعة الجميلة.
أما الخطبة، فهي للرؤية الظاهرية، ومعرفة الفكر، والطبيعة الإنسانية؛ لتستقيم الحياة بعد ذلك كما أمرنا النبي صلي الله عليه وسلم: (ألا نظرت إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) (رواه الترمذي وغيره، وقال الترمذي: حديث حسن)، نظرت إليها وليس فعلت الأفاعيل التي يحرّمها ديننا الطاهر.
- الزواج طاعة وعبادة:
والزواج في الإسلام تجري عليه الأحكام المعروفة، من الوجوب إلى الحرمة، وقد حثّ عليه الإسلام، فلا رهبانية عندنا، وقد قال ربنا: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن لم يستطع، فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاء) (رواه الشيخان)، وقال: (تزوَّجوا الودود الولود، فإني مُكاثِر بكم الأنبياء يوم القيامة) (رواه أحمد وأبو داود وغيرهما)، وقال صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن يهجر الإفطار والزواج والنوم: (إني أصوم وأُفطِر، وأصلي وأنام، وأتزوَّج النساء، فمَن رغَب عن سنَّتي، فليس مني) (رواه الشيخان).
فالزواج هو طاعة لله عز وجل، وهو عبادة له حين تقوم المرأة على أمر زوجها، ويقوم الرجل على أمر زوجته حتى تصير اللقمة التي يضعها في فيها صدقة، وحتى يصير رضاه مجلبة لرضا الله عز وجل.
الزواج هو طاعة لله عز وجل، وهو عبادة له حين تقوم المرأة على أمر زوجها، ويقوم الرجل على أمر زوجته حتى تصير اللقمة التي يضعها في فيها صدقة، وحتى يصير رضاه مجلبة لرضا الله عز وجل
- الزواج سعادة وانطلاق:
وتلك العبادة هي لجلب السعادة على الإنسان، وليس لجلب الهم والحزن والديون، وضيع العيش، ومفسدة القلوب، والشحناء بين اثنين جمع الله بينهما في ميثاق أسماه غليظاً! الزوجة في ظهر زوجها تحثه على العمل والحركة والنجاح، بالحب وليس للتكليف المضني، لله وليس لطلبات دنيا، بالصدق والحركة الإيجابية في المجتمع ومشاركته قضية كبرى أكبر من قضية الطعام والشراب والملبس، فكلما كبر اهتمام الزوجين، صغرت وهانت المشكلات الأسرية العارضة، فتتيسر مسيرة الحياة وتهون صعابها .
- الحب ثم الحب:
العلاقة بين الزوجين هي علاقة خاصة جداً، لا يجوز أن تقاس بأي ميزان بشري معتاد، فهي امتداد له وهو منبع لها، الحقوق والواجبات ما هي إلا عناوين أو دساتير لتلك الحياة، أما تفاصيلها فهم من يكتبونها بمشاعرهما الراقية، أحدهما تجاه الآخر، لا يمسك أحدهما للآخر عصا "حقي"، وإنما يجود بما لديه وكأنه يجود به على نفسه، كيف لا وهو حصنها، وكيف لا وهي عرضه وشرفه، وجزء منه قد خلقت من ضلعه، الاحترام والتقدير بينهما ليس واجباً فقط، وإنما هو الطبيعي في علاقة لا تستقيم حياة أحدهما بغير الآخر فيها، هي تحيا معه هو دون غيره؛ لأنها ارتضته هو من سائر رجال العالمين، وهو مسؤول عنها هي دون سائر نساء العالمين، كلاهما ستر الآخر، يذوب في الآخر، صون وعفة الآخر، فأية مشكلات يمكن أن تنشأ بين اثنين لا يستر أحدهما سوى الآخر.
- التجديد في الحياة الزوجية:
وقد تصل الحياة لنوع من الرتابة القاتلة، والتي تضفي نوعاً من الجمود بينهما، فهنا يجب أن يبادر أحدهما بالنهوض بها، وسرعة الخروج من تلك الحالة، والمرأة بما وهبها الله عز وجل من صفات الرحمة والدفء وحسن التعبير عن الحب هي المخولة بذلك الفعل، هي التي يجب أن تقوم بعملية التجديد الفوري قبل أن تصدأ القلوب.
وكما أن الركود يفسد الماء، فإن عدم تجديد الحياة يفسدها، وأبسط الأشياء يمكن أن تؤدي تلك المهمة، تغيير شكل البيت كل فترة وإعادة ترتيبه، والخروج منفردين بشكل غير مسرف ولا يستهلك أموالاً ترهقه، وقد تؤدي فسحة قصيرة تعد هي أدواتها بيدها كخيمة وطعام إلى إعادة ترتيب الحياة من جديد.
شكل العلاقة الزوجية ذاتها يمكن تجديدها، البساطة والرقي والجمال، والنظافة للبيت والأولاد، والزوجة نفسها قد تقدم الكثير، فنون التغيير تملك المرأة مفاتيحها ببراعة، حتى يصير الزواج مندهشاً من فرط السعادة والرضا، فينعكس كل ذلك على مجتمعاتنا المتعطشة للسعادة.